التي قبلها ومقطعها النون، فلم يستنكر ذلك احد سمعه من أهل البلاغة والنظم، ولو كان ذلك في شعر أو سجع لا يستهجن ولم يعترف لصاحبه بأن آياته المتفاوتة قصيدة واحدة، فعلم بهذا أن مبنى آيات القرآن على غير مبنى الاسجاع والقوافي.
ومن تأمل كلام مسيلمة على مشاكلته للاسجاع ومباينته آيات القرآن، وكذلك بقصد الهزل، والركيك من اللفظ والغث في المعنى، فيقول: (يا ضفدع نقي كم تنقيثن، لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدرين) فإن هذا من قول يدل على أن اللفظ كان أغلب عليه من قصد المعنى، وإلا فليس في هذا الكلام ما يستحسنه عاقل.
وهكذا قال الصديق رضي الله عنه لما سمعه: (إن هذا لم يخرج من إله) أي لم يخرج من عند الرب، فإن الرب حكيم، الحكيم لا يتكلم بما لا يستجاد معناه، ولا يستفاد لفظه وكذلك قوله: (وقد أنعم الله على الحبلى إذا خرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا) قد عرض له في الهجنة والركاكة ما لا تفرضه له إلا تجريده قصداً للفظ وإعراضه عن المعنى.
وكذلك قوله في صفة الفيثل الذي تقدم ذكره، والكشف عما فيه، وإنما عرض له التقصير فيه لإرادته اللفظ وقلة حفله بالمعنى. وآيات القرآن كلها تخل من هذه الصفة، فظهرت بذلك فرق ما بينها وبين غيرها وبالله التوفيق.
فإن قيل: أرأيتم لو تحدى العرب عليه من الإتيان بمثل هذا القرآن، أهو مثله فيث النظم دون غيره أو في النظم أو المعاني، فإن كان في النظم والمعاني، فأنتم تعلمون أنه لا إعجاز في المعاني، وإن كان في النظم وجب أن يكون من تكلم بكلام منظوم مثل نظمه أتيا بمثله، وإن كان ذلك الكلام هدراً لا معنى تحته، ولا فائدة فيثه، وفي هذا ما يمنعكم من الطعن فيث كلام مسيلمة لما فيه من اختلاف المعاني، وفساد الأعراض.
فالجواب: إن الإعجاز في الفظ القرآن ولكن لا يمنع اللفظ من الإفادة والإجادة، فإن تكلم متكلم بكلام يدل على عرض محتج ومعنى مستقيم منظوم بنظم لا يشبه نظم الشعر ولا نظم الخطب ولا نظم الرسائل ولا الاسجاع، كان معارضاً للقرآن آتيا بمثله، ولكن يكون ذلك أبدا شهادة من الله بذلك حقا، فأما أن نظم هدراً أو ضاع