فإن قيل: إذا قرأه الرسول عليهم عند التبليغ، فما يبقى منهم العمل. فما معنى قراءتهم قبل الرسول لا يقرأوه على كلهم، إنما يقرأ على من يحضره إن قرأوا منه ما يأمر بإثباته إلى أن يكون الراغب فيه يتعلمه، فيقرأوه، وعلى أنه لو قرأ كل ما تزل عليه جميع أصحابه ما كان من المعلوم أنهم لا يحفظونه بأول ما يسمعونه، ولا يتفهمونه حتى يعبدوه بعد ذلك على أنفسهم، ويتفكروا فيه ويسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل عليهم من معانيه.
إذا كان كذلك، صح أنهم لا يستغنون بقراءة الرسول عليهم عن قراءة أنفسهم. ثم إذا كان منه الجلي الواضح، ومنه الحفي الغامض، ومنه ما لا ينتظم بما يجاوره وإنما ينتظم لشيء بعيد منه، قد يقدمه، ومنه ما يحتاج إلى انتظار عنه فيما بعد. فإن وجدوا لا يعلم أنه مضمر محذوف، احتيج إلى تكرير القراءة مع التأمل البليغ ليوقف على حال انتظام ويوصل إلى معرفة الأغراض والمقاصد، فكانت القراءة تكريرها من هذا الوجه برواية.
وأما أنه معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يقتضي قراءته ليفرغ المعروف منه السمع الذي هو ملاك الكلام، فيعلم السامع أنه منظوم لا منثور، وأن نظمه لا نظم الشعر ولا نظم الرسائل والخطب، فثبت أنه خارج من المنظوم المعهود، مباين لكلام البشر. ويقتضي براءته من وجه، وهو أن يصان بكثرة القراءة من المصاحف، وحفظًا من أن ينسى أو يرتاب بشيء منه، أو يكن ملحد على تغيير شيء منه أو زيادة حرف أو نقصانه.
ويكون أحد وجوه حفظ الله تعالى الذي يضمنه بقوله:} إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {.
أمر العباد بإدمان قراءته، فلا ينسى ولا يعرض بشيء مما ذكرنا. وأما أن الخطاب به قائم إلى قيام الساعة، فإنه يقتضي إدامة قراءته، وتعليم الأباء والأبناء إياه، واستيداع الكبار والصغار ما حملوه، فإن الأذى من البعض إلى البعض، ومن المتقدم إلى المتأخر هكذا يكون لا وجه له غيره. فكانت القراءة من هذا الوجه ومن الوجهين اللذين ذكرتها قبل، برًا وقراية، ولو لم يكن فيه إلا أنه كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على النبي