وقال المعتزلي: أنا قد احتَرق قلبي بالشُّبهات وأُحِبُّ هذه الواردات، فلزم الشيخَ مدةً ثم خرج من محلِّ عبادته وهو يقول: والله يا سيدي ما الحقُّ إلا فيما تقوله هؤلاء المشبِّهة! يعني المثبتين للصفات؛ فإن المعتزلة يسمُّون الصِّفاتية مشبِّهةً. وذلك أنه عَلِمَ علمًا ضروريًّا لا يمكنه دفعُه عن قلبه أنَّ صانعَ العالَم لا بدَّ أن يتميَّز عن العالَم ويكون بائنًا منه له صفاتٌ تختصُّ به، وأن هذا الربَّ الذي تصفُه الجهميةُ إنما هو عدمٌ محض.
وهذا موضعُ الحكاية المشهورة (١) عن الشَّيخ العارف أبي جعفر الهمَذاني (٢) لأبي المعالي الجويني لما أخذ يقولُ على المنبر: كان الله ولا عرش، فقال: يا أستاذ، دَعْنا مِن ذكر العرش ــ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السَّمع ــ, أخبِرنا عن هذه الضرورة التي نجدُها في قلوبنا، فإنه ما قال عارفٌ قطُّ: «يا الله» إلا وجدَ من قلبه ضرورةً تطلبُ العلوَّ لا تلتفتُ يمنةً ولا يَسْرة، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطَمَ أبو المعالي على رأسه، وقال: حيَّرني الهمذاني! حيَّرني الهمذاني! ونَزَل.
(١). رواها الحافظان محمد بن طاهر المقدسي وأبو العلاء العطار عن أبي جعفر, وهوَّل التاج السبكي في إنكارها ولم يأت ببرهان. انظر: «منهاج السنة» (٢/ ٦٤٢) , و «بيان تلبيس الجهمية» (١/ ٥٠, ٥٤, ٤/ ٥١٨) , و «الاستقامة» (١/ ١٦٧) , و «مجموع الفتاوى» (٣/ ٢٢٠) , و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (٢٧٥) , و «العلو» (٥٨٢) , و «تاريخ الإسلام» (١٠/ ٤٢٧) , و «السير» (١٨/ ٤٧٤, ٢٠/ ١٠٢) , و «مختصر العلو» للألباني (٢٧٧) , و «طبقات الشافعية» (٥/ ١٩٠).
(٢). محمد بن الحسن, المحدث الحافظ, من أئمة السنة ومشايخ الصوفية (ت: ٥٣١). «تاريخ الإسلام» (١١/ ٥٥٤) , و «السير» (٢٠/ ١٠١).