فعلماءُ الحديث أعلمُ الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعُهم لذلك، فيكونُ عندهم العلمُ علمُ خاصَّة الرسول وبِطَانته، كما أن خواصَّ الفلاسفة يعلمون عِلمَ أئمَّتهم، وخواصَّ المتكلمين يعلمون عِلمَ أئمَّتهم، وخواصَّ القرامطة والباطنية يعلمون عِلمَ أئمَّتهم.
وكذلك أئمَّةُ الإسلام (١) مثل أئمَّة العلماء، فإن خاصَّةَ كلِّ إمامٍ أعلمُ بباطن أموره, مثل مالك بن أنس فإن ابنَ القاسم لمَّا كان أخصَّ الناس به وأعلمَهم بباطن أمره اعتَمد أتباعُه على روايته، حتى إنه عنه تؤخذُ مسائلُ السِّرِّ التي رواها ابن أبي الغَمْر (٢) وإن طعَن بعضُ الناس فيها (٣)،
وكذلك
(١) الأئمة المتبوعون.
(٢) أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر, ثقة فقيه من أصحاب ابن القاسم (ت: ٢٣٤). انظر: «ترتيب المدارك» (٤/ ٢٢) , و «تاريخ الإسلام» (٥/ ٨٦٤) , و «الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة» لابن قطلوبغا (٦/ ٢٨٧).
(٣) وتسمى هذه المسائل بكتاب السِّر؛ لأن فيه كثيرًا مما يتعلق بالخلفاء كما يقول ابن حجر في «التلخيص» (٣/ ٣٧٤) , وفي «الذخيرة» للقرافي (١/ ٣٢٣) ما يوهم أنه الرسالة التي بعثها مالك إلى هارون الرشيد, وهي رسالةٌ مشهورةٌ أنكرها إسماعيل القاضي والأبهري وأصبغ وابن أبي زيد وغيرهم, وفيها أحاديثُ منكرةٌ تخالف أصول مالك وأقوالٌ لا تُعْرَف من مذهبه ورأيه. انظر: «ترتيب المدارك» (٢/ ٩٣) , و «السير» (٨/ ٨٩). ومقتضى صنيع القاضي عياض وغيره ممن اطلع على الكتابين التفريق بينهما, وقد طبعت الرسالة مرات ونسخها الخطية متوافرة بينما لم يُعْثَر على كتاب السِّر اليوم فيما علمت. وزعم أمين الخولي في ترجمته المحررة للإمام مالك (٣/ ٧٥٩) أن «السِّر» تحريفٌ عن السِّيَر جمع سيرة! وهو زعمٌ باطلٌ فطير.
وكتاب «السِّر» من رواية الحارث بن مسكين, وابن أبي الغمر, وأصبغ بن الفرج, ثلاثتهم عن ابن القاسم عن مالك. انظر: «ترتيب المدارك» (٢/ ٩٤) , و «السير» (٨/ ٨٩) , و «التلخيص» (٣/ ٣٧٤) , و «تجريد أسانيد الكتب المشهورة» لابن حجر (٤٠٦) , و «الديباج المذهب» (٢/ ١٨٨).
وقال الخليلي في «الإرشاد» (٤٠٥ - منتخبه): «يروى عن عبدالرحمن بن القاسم العتقي عن مالك بن أنس كتاب السرِّ لمالك, والحفَّاظ قالوا: لا يصحُّ عن عبد الرحمن أنه روى ذلك؛ لأن فيه أشياء ينزَّه مالكٌ عنها».
وجمهور المالكية على نفيه عن مالك, ومن متقدميهم: أبو بكر الأبهري في شرح «الجامع لابن عبد الحكم» (١٧٥) وروى ذلك عن ابن القاسم, وحكى ابن الحاج في «المدخل» (٢/ ١٩٢) إطباق أصحاب مالك عليه. وانظر: «المفهم» (٤/ ١٥٧) , وتفسير القرطبي (٤/ ٨) , و «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس (١/ ٨٨) , و «جامع الأمهات» لابن الحاجب (٢٦١) , و «مواهب الجليل» (١/ ٣٠, ٣/ ٤٠٧).
وقال الطوفي في «الإشارات الإلهية» (١/ ٣٣٢ - ٣٣٣): «وقد شاهدناه عنه في كتاب السر من نسخة صحيحة متصلة الإسناد إليه، وأصحابه تارة يسلِّمون صحته عنه ويدَّعون رجوعه، وتارة ينكرونه عنه أصلًا, وينكرون صحة كتاب السر عنه بالأصالة ثم ينقلون من كتاب السر مسائل في غير هذا الباب, والدليل على صحته عنه أن عُظْمَ مادته عن نافع عن ابن عمر».
ويظهر من هذا الموضع و «مجموع الفتاوى» (٢١/ ١٨٦) ميل المصنف إلى ثبوته عن مالك, وهو الأشبه.