المثال الثامن إثبات نزوله حقيقة
الْمِثَالُ الثَّامِنُ: مِمَّا ادُّعِيَ فِيهِ أَنَّهُ مَجَازٌ وَهُوَ حَقِيقَةُ لَفْظِ (النُّزُولِ) وَالتَّنْزِيلُ وَالْإِنْزَالُ حَقِيقَةُ مَجِيءِ الشَّيْءِ أَوِ الْإِتْيَانُ بِهِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ لُغَةً وَشَرْعًا، كَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} ق: ٩ وَقَوْلِهِ: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} القدر: ٤ وَقَوْلِهِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الشعراء: ١٩٣ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت: ٤٢ وَتَوَاتَرَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَادَّعَى الْمُعَطِّلُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّنْزِيلِ مُجَرَّدَ إِيصَالِ الْكِتَابِ وَبِالنُّزُولِ الْإِحْسَانَ وَالرَّحْمَةَ، وَأَسْنَدَ دَعْوَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} الحديد: ٢٥ وَبِقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر: ٦ قَالَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدِيدَ وَالْأَنْعَامَ لَمْ تُنَزَّلْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَجَازِ النُّزُولِ، وَأَنَّهُ مُطْلَقُ الْوُصُولِ لَا يُعْرَفُ فِي كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا لُغَةٍ، وَلَا شَرْعٍ، وَلَا عُرْفٍ، وَلَا اسْتِعْمَالٍ، فَلَا يُقَالُ لِمَنْ صَعِدَ إِلَيْكَ فِي سُلَّمٍ إِنَّهُ نَزَلَ إِلَيْكَ وَلَا لِمَنْ جَاءَكَ مِنْ مَكَانٍ مُسْتَوٍ نُزُولٌ، وَلَا يُقَالُ نَزَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ إِذَا جَاءَ، وَذَلِكَ وَضْعٌ جَدِيدٌ وَلُغَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ عُرِفَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِإِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ.
الثَّالِثُ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ الْأَمَانَ وَالثِّقَةَ بِاللُّغَاتِ، وَيُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخَاطُبِ، إِذْ لَا يَشَاءُ السَّامِعُ أَنْ يَخْرُجَ اللَّفْظُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَّا وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
الرَّابِعُ: إِنَّ قَوْلَهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدِيدَ لَمْ يُنَزَّلْ جِرْمُهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْأَنْعَامُ، يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَعْلُومٌ لَكَ بِالضَّرُورَةِ أَمْ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا ضَرُورَةَ يُعْلَمُ بِهَا ذَلِكَ، وَأَيْنَ الدَّلِيلُ.
الْخَامِسُ: إِنَّهُ قَدْ عَهِدَ نُزُولُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ آدَمُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} طه: ١٢٣ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يُنْزِلَ أَصْلَ الْأَنْعَامِ مِنْ أَصْلِ