الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَلِهَذَا نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّجُوعِ فِي الْفُتْيَا وَالْأَحْكَامِ إِلَيْهِ رِوَايَتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْخِلَافُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَجْعَلُونَ تَفْسِيرَهُ فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.
ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَتَلَقَّوْهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَعْدِلُوا عَمَّا بَلَّغَهُمْ إِيَّاهُ الصَّحَابَةُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَكَيْفَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي نَقْلِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِي نَقْلِ حُرُوفِهِ، وَإِلَى لُغَتِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِي خِطَابِهِمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إِلَى لُغَةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ فَهْمَ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ، وَهَاهُنَا خَمْسُ دَرَجَاتٍ.
الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ يُبَاشِرَ عَرَبًا غَيْرَهُمْ فَيَسْمَعَ لُغَتَهُمْ وَيَعْرِفَ مَقَاصِدَهُمْ وَيَقِيسَ مَعَانِيَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا سَلِمَ اللَّفْظُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ مِثْلَ الْمُرَادِ بِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ الْآخَرِ، وَغَايَتُهُ فِيهِ الْقِيَاسُ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اتِّحَادِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْكَلَامَيْنِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جِنْسَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَخَاطَبُ بِهِ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّ الرَّسُولَ جَاءَهُمْ بِمَعَانٍ غَيْبِيَّةٍ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا، وَأَمَرَهُمْ بِأَفْعَالٍ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَتِهِمْ كَانَ بَيْنَ مَعْنَاهُ وَبَيْنَ مَعَانِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَلَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً بِهَا، بَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْهُ، وَلِهَذَا يُسَمِّي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً شَرْعِيَّةً بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهَا، وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةً لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَ تِلْكَ الْخَصَائِصِ وَبَيْنَ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مُتَوَاطِئَةً بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ خَصَّصَهَا بِبَعْضِ