وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيُّ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ يَحْرُمُ الْخِلَافُ فِيهَا مَعَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ وَيَكُونُ مُعْتَقِدُ خِلَافِهَا جَاهِلًا، فَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ، عَقْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ شَرْعِيَّةً، وَالْفَرْعُ مَا لَا يَحْرُمُ الْخِلَافُ فِيهِ أَوْ مَا لَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ فِيهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا قَبْلَهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ قَطْعِيًّا وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ فِيهَا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَقَدْ سَلَّمَ الْقَاضِي ذَلِكَ فِيمَا إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ النَّصُّ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فَرْقًا آخَرَ فَقَالَ: الْأُصُولِيَّاتُ هِيَ الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّاتُ، وَالْفُرُوعِيَّاتُ هِيَ الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا أَمْرَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَيْضًا، وَهُوَ حُبُّ الْقَلْبِ وَبُغْضُهُ وَحُبُّهُ لِلْحَقِّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ وَتَضَمَّنَتْهُ، وَبُغْضُهُ الْبَاطِلَ الَّذِي يُخَالِفُهَا، فَلَيْسَ الْعَمَلُ مَقْصُورًا عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ، بَلْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَبَعٌ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا إِيمَانُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ وَحُبُّهُ وَذَلِكَ عَمَلٌ بَلْ هُوَ أَصْلُ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِمَّا غَفَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ دُونَ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَأَعْظَمِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا جَازِمِينَ بِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ شَاكِّينَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ التَّصْدِيقِ عَمَلُ الْقَلْبِ مِنْ حُبِّ مَا جَاءَ بِهِ وَالرِّضَا بِهِ وَإِرَادَتِهِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ عَلَيْهِ.
فَلَا تُهْمِلْ هَذَا الْمَوْضِعَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ جِدًّا، بِهِ تُعْرَفُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ.
فَالْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ عَمَلِيَّةٌ وَالْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ عِلْمِيَّةٌ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَفِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ، وَلَا فِي الْعِلْمِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ.
وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِأَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ هِيَ الَّتِي يَكْفُرُ جَاحِدُهَا، كَالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمَعَادِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَمَسَائِلِ الْفُرُوعِ مَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا، كَوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَاشْتِرَاطِ الطُّمَأْنِينَةِ وَوُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ فِي الْوُضُوءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَأَيْضًا فَالتَّكْفِيرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَالْكَافِرُ مَنْ كَفَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْكُفْرُ جَحْدُ مَا عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُسَمُّونَهَا عِلْمِيَّةً أَوْ عَمَلِيَّةً، فَمَنْ جَحَدَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ فِي دِقِّ الدِّينِ وَجِلِّهِ.