ذلك بقوله: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ وقذف الشيء: الرمي به. فإن قيل: ما فائدة قوله: لِما يُوحى وقد علم ذلك؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين: أحدهما: أن المعنى: أوحينا إِليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إِليها، إِذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إِليها، لأنها ليست بنبيّ، وذلك أنها أُلهمت. والثاني: أنّ لِما يُوحى أفاد توكيداً، كقوله: فَغَشَّاها ما غَشَّى «1» .
قوله تعالى: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ قال ابن الأنباري: ظاهر هذا الأمرُ، ومعناه معنى الخبر، تأويله: يلقيه اليمُّ، ويجوز أن يكون البحر مأموراً بآلة ركَّبها الله تعالى فيه، فسمع وعقل، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار. فأما الساحل، فهو: شط البحر. يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني: فرعون. قال المفسرون:
اتخذت أُمُّه تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً، ووضعت فيه موسى وأَحكمت بالقار شقوق التابوت، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إِذا بالتابوت، فأمر الغلمان والجواري بأخذه، فلما فتحوه رأَوا صبياً من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبَّه حُبّاً شديداً، فذلك قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قال أبو عبيدة: ومعنى «ألقيتُ عليكَ» أي: جعلتُ لكَ مَحَبَّة مِنّي. قال ابن عباس: أَحَبَّه وحبَّبَه إِلى خَلْقه، فلا يلقاه أحد إِلا أحبَّه من مؤمن وكافر. وقال قتادة: كانت في عينيه مَلاحة، فما رآه أحد إلّا أحبّه.
قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وقرأ أبو جعفر: «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام. قال قتادة: لتُغذى على محبتي وإِرادتي. قال أبو عبيدة: على ما أُريد وأُحِبّ. قال ابن الأنباري: هو من قول العرب: غُذي فلان على عيني، أي: على المَحَبَّة مِنّي. وقال غيره: لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني، يقال:
صنع الرَّجل جاريته: إِذا ربَّاها وصنع فرسه: إِذا داوم على علفه ومراعاته، والمعنى: ولِتُصْنَعَ على عيني، قدَّرنا مشي أختك وقولها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله تعالى. فأما أُخته، فقال مقاتل: اسمها مريم. قال الفراء: وإِنما اقتصر على ذِكْر المشي، ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلّتهم على الظّئر، لأنّ العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام، وبقليله، إِذا كان المعنى معروفاً، ومثله قوله: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ «2» ، ولم يقل: فأُرسل حتى دخل على يوسف.
قال المفسرون: سبب مشي أُخته أن أُمَّه قالت لها: قُصِّيه، فاتَّبعت موسى على أثر الماء، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة، فقالت لهم أُخته: «هل أدُلُّكم على من يَكْفُلُه» أي: يُرْضِعه ويضمه إِليه، فقيل لها: ومن هي؟ فقالت: أُمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أسنَّ من موسى بثلاث سنين، فأرسلوها، فجاءت بالأم فقبل ثديها، فذلك قوله تعالى:
فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أي: رددناك إِليها كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بك وبرؤيتك. وَقَتَلْتَ نَفْساً يعني: القبطي الذي وكره فقضى عليه، وسيأتي ذِكْره إِن شاء الله تعالى فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وكان مغموماً مخافةَ أن يُقْتَل به، فنجّاه الله بأن هرب إِلى مَدْيَن، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: اختبرناك اختباراً، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أخلصناك إِخلاصاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: ابتليناك ابتلاءً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال الفراء: ابتليناك بغمّ