والثاني: أن المخفَّفة من القُدْرَة والملك، والمشدَّدة من التقدير والقضاء. ثم بيَّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحّدوه، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم.
والمعنى: أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. قال ابن قتيبة: يقال: اكفتْ هذا إليك، أي: ضمه. وكانوا يسمون بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضمّ الموتى.
وفي قوله عزّ وجلّ: أَحْياءً وَأَمْواتاً قولان: أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياءً وأمواتاً، قاله الجمهور. قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما يقرأ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً «1» وقال الأخفش: انتصب على الحال.
والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات والعمارة، وأمواتاً بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ قد سبق بيانه شامِخاتٍ أي: عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ قد سبق معنى «أسقينا» «2» ومعنى «الفرات» «3» والمعنى: أن هذه الأشياء أعجب من البعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا، وهو النار انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي. قال ابن قتيبة: «والظّل» هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدُّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إِلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار لا ظَلِيلٍ أي: لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس. قال مجاهد: تكون شعبة فوق الإِنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به. وقال الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضَّريع، والزَّقوم، والغِسْلين. فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي: لا يدفع عنكم لَهَبَ جهنم. ثم وصف النار فقال عزّ وجلّ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ، وهو جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً كَالْقَصْرِ قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيَّة. وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول الجمهور. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء «كالقَصَر» بفتح الصاد. وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء، فنسميه:
القصر. قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أُصول النخل المقطوعة المقلوعة. وقال الزّجّاج: أراد أعناق الإبل. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وابن يعمر «كالقَصِر» بفتح القاف، وكسر الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي «كالقُصُر» برفع القاف والصاد جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير «كالقِصَر» بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ «كالقصر» بضمّ القاف وإسكان الصاد.