في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتلخص ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنَ الطَّعْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ فَأَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْبَعُ وَدَمُ الْحَيْضِ دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ الْبَقَرَةِ: 228 قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ، وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ، لَكِنْ مِنْ عُرُوقٍ تَنْقَطِعُ فِي فَمِ الرَّحِمِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: «إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ»
وَهَذَا الْكَلَامُ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا فِي دفع للنقض/ عَنْ تَعْلِيلِ الْقُرْآنِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ صِفَاتِ دَمِ الْحَيْضِ: الصِّفَاتُ الَّتِي وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَ الْحَيْضِ بِهَا أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَسْوَدُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَخِينٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحْتَدِمٌ وَهُوَ الْمُحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ الرابعة: أَنَّهُ يَخْرُجُ بِرِفْقٍ وَلَا يَسِيلُ سَيَلَانًا وَالْخَامِسَةُ: أَنَّ لَهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَدْفَعُهَا الطَّبِيعَةُ السَّادِسَةُ:
أَنَّهُ بَحْرَانِيٌّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ وَقِيلَ: مَا تَحْصُلُ فِيهِ كُدُورَةٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ.
ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: دَمُ الْحَيْضِ يَتَمَيَّزُ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَكُلُّ دَمٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ دَمُ الْحَيْضِ، وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ، وَمَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ التَّكَالِيفِ وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ لِعَارِضِ الْحَيْضِ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُجُودِ بَقِيَتِ التَّكَالِيفُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى مَا كَانَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَإِيجَابُ التأمل في تلك الدماء وفي تلك الدماء وفي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي عُسْرًا وَمَشَقَّةً، فَالشَّارِعُ قَدَّرَ وَقْتًا مَضْبُوطًا مَتَى حَصَلَتِ الدِّمَاءُ فِيهِ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَيْضِ كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الدِّمَاءُ، وَمَتَى حَصَلَتْ خَارِجَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَيْضِ كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ تِلْكَ الدِّمَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِسْقَاطُ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ الْمُكَلَّفِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لِلْحَيْضِ هِيَ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَاجْتِنَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْحَيْضِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ حَظْرُ الْجِمَاعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَقَلُّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَهُوَ دَمٌ فَاسِدٌ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: إِنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَرَكَهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَقْدِيرَ لِذَلِكَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ وُجِدَ سَاعَةً فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ وُجِدَ أَيَّامًا فَكَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَالِكٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمِقْدَارُ سَاقِطًا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ هُوَ الدَّمُ الْمَوْجُودُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الدُّنْيَا مُسْتَحَاضَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ الدَّمِ يَكُونُ حَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ حَمْنَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ وَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَيْضٌ، بَلْ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَيْضٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ،
فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يُمَيَّزُ دَمُ الْحَيْضِ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ بِالصِّفَاتِ