ثُمَّ قَالَ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ لَا تُضَارَّ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ إِنَّهُ نَسَقٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ النَّسَقَ بلا إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجُ الثَّانِي مِمَّا دَخَلَ فِيهِ الْأَوَّلُ نَحْوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا لَا عَمْرًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: يَقُومُ زَيْدٌ لَا يَقْعُدُ عَمْرٌو، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّسَقِ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فِي النَّهْيِ كَمَا يُقَالُ: لَا يَضْرِبُ زَيْدٌ لَا تَقْتُلْ عُمْرًا وأما النصب فعلى النهي، والأصل لا تضار فَأُدْغِمَتِ/ الرَّاءُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَفُتِحَتِ الثَّانِيَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، يُقَالُ:
يُضَارِرُ رَجُلٌ زَيْدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ التَّضْعِيفُ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى الرَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، فَصَارَ لَا تُضَارَّ، كَمَا تَقُولُ: لَا تَرْدُدْ ثُمَّ تُدْغِمُ فَتَقُولُ: لَا تَرُدَّ بالفتح قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْمَائِدَةِ: 54 وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَا تُضَارَّ بِالْكَسْرِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَرَأَ أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ (لا تضارر) مطهرة الرَّاءِ مَكْسُورَةً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ نَظَرًا لِحَالِ الْإِدْغَامِ الْوَاقِعِ فِي تُضَارَّ أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون أصله لا تضار بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْفَاعِلَةَ لِلضِّرَارِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا تُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَفْعُولَةَ بِهَا الضِّرَارُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَفْعَلُ الْأُمُّ الضِّرَارَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ إِيصَالِ الضِّرَارِ إِلَى الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَمْتَنِعَ الْمَرْأَةُ مِنْ إِرْضَاعِهِ مَعَ أَنَّ الْأَبَ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، فَتُلْقِي الْوَلَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَعْنَاهُ: لَا تُضَارَرْ، أَيْ لَا يَفْعَلُ الْأَبُ الضِّرَارَ بِالْأُمِّ فَيَنْزِعَ الْوَلَدَ مِنْهَا مَعَ رغبتها في إمساكها وَشِدَّةِ مَحَبَّتِهَا لَهُ، وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ أَيْ: وَلَا تَفْعَلُ الْأُمُّ الضِّرَارَ بِالْأَبِ بِأَنْ تُلْقِيَ الْوَلَدَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَيَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَغِيظَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ تُضَارَّ وَالْفِعْلُ لِوَاحِدٍ؟.
قُلْنَا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ، فَإِنَّ إِيذَاءَ مَنْ يُؤْذِيكَ أَقْوَى مِنْ إِيذَاءِ مَنْ لَا يُؤْذِيكَ وَالثَّانِي: لَا يُضَارُّ الْأُمُّ وَالْأَبُ بِأَنْ لَا تُرْضِعَ الْأُمُّ أَوْ يَمْنَعَهَا الْأَبُ وَيَنْزِعَهُ مِنْهَا وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِضْرَارِ الْوَلَدِ إِضْرَارُ الْآخَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَارَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ إِسَاءَتَهَا إِلَى الْوَلَدِ بِتَرْكِ الرَّضَاعِ، وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ وَالْحِفْظِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَضَارِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْنَعَ الْوَالِدَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ وَهِيَ بِهِ أَرْأَفُ وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ أَوْ بِأَنْ يُسِيءَ الْعِشْرَةَ فَيَحْمِلَهَا ذَلِكَ عَلَى إِضْرَارِهَا بِالْوَلَدِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّهْيِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَلَدِ وَذِكْرُ الْوَالِدِ وَذِكْرُ الْوَالِدَاتِ احْتَمَلَ فِي الْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ لَمْ يَدَعُوا وَجْهًا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَّا وَقَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ.