الْبَيَانِ: كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها النَّازِعَاتِ: 45 وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَهَذَا شَأْنُهُ وَطَرِيقُهُ، وَالْمُحْسِنُ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا ذَكَرْتُ هُوَ طَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ الثَّالِثُ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
سورة البقرة (2) : آية 237وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، تَكَلَّمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا كَانَ قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ/ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَيَعْنِي بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ: أَنْ يَخْلُوَ بِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ حِسِّيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ، فَالْحِسِّيُّ نَحْوُ: الرَّتْقُ وَالْقَرْنُ وَالْمَرَضُ، أَوْ يَكُونُ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا، وَالشَّرْعِيُّ نَحْوُ، الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ يُوجِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ وَهَاهُنَا وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ.
بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَيْسَ كَلَامًا تَامًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ آخَرَ لِيَتِمَّ الْكَلَامُ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ سَاقِطٌ، أَوْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ إِنْ عُدِمَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ظَاهِرًا، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ قَبْلَهُ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى السُّقُوطِ، عَمِلْنَا بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ قَبْلَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ الْمَهْرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ ثُبُوتِ النِّصْفِ قَائِمَةً لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِوُجُوبِ الْكُلِّ مُقْتَضٍ أَيْضًا لِوُجُوبِ النِّصْفِ إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَيَانُ سُقُوطِ النِّصْفِ، لِأَنَّ عِنْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْكُلِّ كَانَ الظَّاهِرُ هُوَ وُجُوبَ الْكُلِّ، فَكَانَ سُقُوطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى بَيَانِ السُّقُوطِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى بَيَانِ الْوُجُوبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ إِيتَاءِ كُلِّ الْمَهْرِ قَدْ تَقَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْبَقَرَةِ: 129 فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وُجُوبِ النِّصْفِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ وَاقِعًا قَبْلَ الْمَسِيسِ يُنَاسِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَا يُنَاسِبُ وُجُوبَ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَا يُنَاسِبُ السُّقُوطَ، لَا مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ كَانَ إِضْمَارُ السُّقُوطِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ:
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ وَاجِبٌ، وَتَخْصِيصُ النِّصْفِ بِالْوُجُوبِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ الْآخَرِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَانَ غَرَضُنَا مِنْ هَذَا الِاسْتِقْصَاءِ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ.
بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ أَنَّ هَاهُنَا وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسِيسِ إِمَّا حقيقة المس