وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بَيْنَ بَيَاضِ النَّهَارِ وَسَوَادِ اللَّيْلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا فِي الصُّبْحِ إِلَّا أَنَّ الْمَغْرِبَ يَرْجُحُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ أَزْيَدُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَمَا فِي الصُّبْحِ، وَأَقَلُّ مِنَ الْأَرْبَعِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، فَهِيَ وَسَطٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ تُسَمَّى بِالصَّلَاةِ الْأُولَى، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بإمامة فِيهَا، وَإِذَا كَانَ الظُّهْرُ أَوَّلَ الصَّلَوَاتِ كَانَ الْوُسْطَى هِيَ الْمَغْرِبَ لَا مَحَالَةَ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ، قَالُوا لِأَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا يُقْصَرَانِ، الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ،
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ»
فَهَذَا مَجْمُوعُ دَلَائِلِ النَّاسِ وَأَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَرَكْتُ تَرْجِيحَ بَعْضِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا عَظِيمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالَ: الْوِتْرُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَتِ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ سِتَّةً، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَصَلَ لَهَا وُسْطَى، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْوُسْطَى لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْوُسْطَى فِي الْعَدَدِ وَهَذَا مَمْنُوعٌ بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْوُسْطَى الْفَضِيلَةُ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الْبَقَرَةِ: 143 أَيْ عُدُولًا وَقَالَ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ الْقَلَمِ: 28 أَيْ أَعْدَلُهُمْ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذَا الِاشْتِقَاقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُسْطَى فِي الْمِقْدَارِ كَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِ، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُسْطَى فِي الصِّفَةِ وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي وَقْتٍ لَيْسَ بِغَايَةٍ فِي الظُّلْمَةِ وَلَا غَايَةٍ فِي الضَّوْءِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْخُلُقَ الْفَاضِلَ إِنَّمَا يُسَمَّى وَسَطًا لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خُلُقٌ فَاضِلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ هُمَا طَرَفَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مِثْلُ الشَّجَاعَةِ فَإِنَّهَا خُلُقٌ فَاضِلٌ وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْوَسَطِ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَكُونُ وَسَطًا بِحَسَبَ الْعَدَدِ وَمَجَازٌ فِي الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: نَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكُونُ وَسَطًا فِي الزَّمَانِ وَهُوَ الظُّهْرُ.
فَجَوَابُهُ: إِنَّ الظُّهْرَ لَيْسَتْ بِوَسَطٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُنَا قَدْ زَالَ الْوَسَطُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَحْمِلُهُ عَلَى الصُّبْحِ لِكَوْنِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَسَطًا بَيْنَ وَقْتِ الظُّلْمَةِ وَبَيْنَ وَقْتِ النُّورِ، أَوْ عَلَى الْمَغْرِبِ لِكَوْنِ عَدَدِهَا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ.
فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا مُحْتَمَلٌ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبَ الْإِمْكَانِ والله أعلم.