أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى أَرَادَ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَتَأْخِيرٍ، وَمِثْلُ هَذَا عُرْفٌ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَحْياهُمْ فَإِذَا صَحَّ الْإِحْيَاءُ بِالْقَوْلِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْإِمَاتَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مُوتُوا، وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْإِحْيَاءِ مَا رُوِّينَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَحْياهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ بَعْدَ أَنْ مَاتُوا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ وَالصَّادِقُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَلِأَنَّ تَرَكُّبَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الشَّكْلِ الْمَخْصُوصِ مُمْكِنٌ، وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، وَاحْتِمَالُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لِلْحَيَاةِ مُمْكِنٌ وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ الْإِمْكَانُ، وَأَمَّا إِنَّ الصَّادِقَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَتَى أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ وُقُوعِ مَا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إظهاره إلا عند ما يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، إِذْ لَوْ جَازَ ظُهُورُهُ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ لَبَطَلَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِكَرَامَةِ الْوَلِيِّ، وَلِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَكَانَ هَذَا الْحَصْرُ بَاطِلًا، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ:
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي زَمَانِ حِزْقِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ببركة دعائه،
وهذا يتحقق مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا لِيَكُوَنَ مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقِيلَ: حِزْقِيلُ هُوَ ذُو الْكِفْلِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِشَأْنِ سَبْعِينَ نَبِيًّا وَأَنْجَاهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ مَوْتَى فَجَعَلَ يُفَكِّرُ فِيهِمْ مُتَعَجِّبًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنْ أَرَدْتَ أَحْيَيْتُهُمْ وَجَعَلْتُ ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ آيَةً لَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِدُعَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ مَعَارِفَ الْمُكَلَّفِينَ تَصِيرُ ضَرُورِيَّةً عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ: وَعِنْدَ مُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ عَايَنُوا الْأَهْوَالَ وَالْأَحْوَالَ الَّتِي مَعَهَا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً، وَإِمَّا مَا شَاهَدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى أَمَاتَهُمْ بَغْتَةً، كَالنَّوْمِ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ الْبَتَّةَ، فَإِنْ كان الحق هو الأول، فعند ما أَحْيَاهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ نَسُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَنَسُوا مَا عَرَفُوا بِهِ رَبَّهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْعَظِيمَةَ لَا يَجُوزُ نِسْيَانُهَا مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبْقَى تِلْكَ الْمَعَارِفُ الضَّرُورِيَّةُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَبَقَاءُ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَبْقَى التَّكْلِيفُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ بَقُوا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَاتَهُمْ مَا أَرَاهُمْ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَصِيرُ مَعَارِفُهُمْ عِنْدَهَا ضَرُورِيَّةً، وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْمَوْتُ كَمَوْتِ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ يُعَايِنُونَ الْأَهْوَالَ عِنْدَ/ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الذين