الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: نَهْرٌ وَنَهَرٌ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ وَتَحْرِيكِهَا لُغَتَانِ، وَكُلُّ ثُلَاثِيٍّ حَشْوُهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ يَجِيءُ عَلَى هَذَيْنِ، كَقَوْلِكَ: صَخْرٌ وَصَخَرٌ، وَشَعْرٌ وَشَعَرٌ، وَقَالُوا: بَحْرٌ وَبَحَرٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِنْ حَجَرٍ
... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنَّدَى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وَفِي بَحَرٍ
... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَلَيْسَ مِنِّي كَالزَّجْرِ، يَعْنِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِي وَطَاعَتِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ هَذَا:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَأَيْضًا نَظِيرُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا»
أَيْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا وَمَذْهَبِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَطْعَمْهُ أَيْ لَمْ يَذُقْهُ، وَهُوَ مِنَ الطَّعْمِ، وَهُوَ يَقَعُ عَلَى الطَّعَامِ/ وَالشَّرَابِ هَذَا مَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعِنْدِي إِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِوَجْهَيْنِ مِنَ الْفَائِدَةِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَطِشَ جِدًّا، ثُمَّ شَرِبَ الْمَاءَ وَأَرَادَ وَصْفَ ذَلِكَ الْمَاءِ بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَاءَ كَأَنَّهُ الْجُلَّابُ، وَكَأَنَّهُ عَسَلٌ فَيَصِفُهُ بِالطُّعُومِ اللَّذِيذَةِ، فَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ الْعَطَشُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي فَمِهِ كَالْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الطُّعُومِ الطَّيِّبَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يَشْرَبَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَاءَ فِي فَمِهِ وَتَمَضْمَضَ بِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْفَمِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَاقَهُ وَطَعِمَهُ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهُ، فَلَوْ قَالَ:
وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي كَانَ الْمَنْعُ مَقْصُورًا عَلَى الشُّرْبِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ كَانَ الْمَنْعُ حَاصِلًا فِي الشُّرْبِ وَفِي الْمَضْمَضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ أَشَقُّ، وَأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ إِذَا تَمَضْمَضَ بِهِ وَجَدَ نَوْعَ خِفَّةٍ وَرَاحَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْ مِنْهُ لِيَكُونَ آخِرُ الْآيَةِ مُطَابِقًا أَوَّلَهَا، إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اللَّفْظَ، وَاخْتِيرَ هَذَا لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهَرِ كَيْفَ يَحْنَثُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ إِلَّا إِذَا كَرَعَ مِنَ النَّهْرِ، حَتَّى لَوِ اغْتَرَفَ بِالْكُوزِ مَاءً مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ شُرْبِهِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَشْرَبَ مِنَ النَّهْرِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ إِذَا اغْتَرَفَ الْمَاءَ بِالْكُوزِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَشَرِبَهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى الشُّرْبِ مِنَ النَّهْرِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ بِالْكُوزِ وَشَرِبَهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ذَكَرَ فِي اللَّفْظِ الثَّانِي مَا يُزِيلُ هَذَا الْإِبْهَامَ، فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أَضَافَ الطَّعْمَ وَالشُّرْبَ إِلَى الْمَاءِ لَا إِلَى النَّهْرِ إِزَالَةً لِذَلِكَ الْإِبْهَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو غُرْفَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، وقرأ عاصم