فَإِنَّ الْخَلْقَ مَا دَامُوا يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرَائِعِ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِصَامٌ وَلَا نِزَاعٌ، فَالْمُلُوكُ وَالْأَئِمَّةُ مَتَى كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ كَانَتِ الْفِتَنُ زَائِلَةً، وَالْمَصَالِحُ حَاصِلَةً فَظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْفَعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْوَاعَ شُرُورِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا لَا بُدَّ فِي قَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَكَذَا لَا بُدَّ فِي تَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُلْكِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام «الإسلام والسلطان أخوان توأمان»
وَقَالَ أَيْضًا: «الْإِسْلَامُ أَمِيرٌ، وَالسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فَمَا لَا أَمِيرَ لَهُ فَهُوَ مُنْهَزِمٌ، وَمَا لَا حَارِسَ لَهُ فَهُوَ ضَائِعٌ»
وَلِهَذَا يَدْفَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْوَاعَ شُرُورِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ وَضْعِ الشَّرَائِعِ وَبِسَبَبِ نَصْبِ الْمُلُوكِ وَتَقْوِيَتِهِمْ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ لَغَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ الْقَتْلُ وَالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يُسَمَّى فَسَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ الْبَقَرَةِ: 205 وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الْقَصَصِ: 19 وَقَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ غَافِرٍ: 26 وَقَالَ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ الْأَعْرَافِ: 127 وَقَالَ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الرُّومِ: 41 وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ الْحَجِّ: 40 .
الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْأَبْرَارِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَهَلَكَتْ بِمَنْ فِيهَا، وَتَصْدِيقُ هَذَا مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُدْفَعُ بِمَنْ يُصَلِّي مِنْ/ أُمَّتِي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي، وَبِمَنْ يَصُومُ عَمَّنْ لَا يَصُومُ، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُجَاهِدُ عَمَّنْ لَا يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَنْظَرَهُمُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْقُرْآنِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً الْكَهْفِ: 82 وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ الْفَتْحِ: 25 إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً الْفَتْحِ: 25 وَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الْأَنْفَالِ: 33 وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ لَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَهَا لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ.
وَالِاحْتِمَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ دَخَلَتِ الْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ خَلْقِهِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ لِدِفَاعِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِ الْفَسَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِمُ الْفَسَادَ إِنَّمَا لَا يَقَعُ بِسَبَبِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْلُقُهُ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الْفَسَادِ، فَإِذَا صَحَّ مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَفْعَلَ الْفَسَادَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَمِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْفَسَادِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ دَفْعَ الْفَسَادِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِنْعَامٌ يعم الناس