يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ
كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى الْوَاجِبِ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَصِّلُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ حِينَ تَكُونُونَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُكُمْ تَحْصِيلُهَا وَاكْتِسَابُهَا فِي الْآخِرَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ:
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقَ فِي الْجِهَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَا بَيْعَ، وَلَا خُلَّةَ، وَلَا شَفَاعَةَ بِالنَّصْبِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ إِبْرَاهِيمَ: 31 وَفِي الطُّورِ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ الطُّورِ: 23 وَالْبَاقُونَ جَمِيعًا بِالرَّفْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ الْبَقَرَةِ:
197 .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِيءُ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِمَّا حَصَّلَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ الْأَنْعَامِ: 94 وَقَالَ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً مَرْيَمَ: 80 .
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا بَيْعٌ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أن البيع هاهنا بِمَعْنَى الْفِدْيَةِ، كَمَا قَالَ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ الْحَدِيدِ: 15 وَقَالَ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ الْبَقَرَةِ: 123 وَقَالَ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها الْأَنْعَامِ: 7 فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تِجَارَةَ فِيهِ فَتَكْتَسِبَ مَا تَفْتَدِي بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي هُوَ فِي مِلْكِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ تِجَارَةٌ وَلَا مُبَايَعَةٌ حَتَّى يُكْتَسَبَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا خُلَّةٌ فَالْمُرَادُ الْمَوَدَّةُ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ الزُّخْرُفِ: 67 وَقَالَ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ البقرة: 166 وقال: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الْعَنْكَبُوتِ: 25 وَقَالَ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ الشُّعَرَاءِ: 100 وَقَالَ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ الْبَقَرَةِ: 270 وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا شَفاعَةٌ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ الشَّفَاعَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الدَّلَائِلِ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الْبَقَرَةِ: 281 لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الْبَقَرَةِ: 48 .
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَكُونُ مَشْغُولًا بِنَفْسِهِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ عَبَسَ: 37 وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، عَلَى مَا قَالَ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
الْحَجِّ: 2 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ صَارَ/ مُبَغِّضًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا صَارَ مُبَغِّضًا لَهُمَا صَارَ مُبَغِّضًا لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهِمَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَنُقِلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: