وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَخُصُّهُمْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْإِكْرَامِ الْعَظِيمِ فَكَانَ التَّخْصِيصُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلْكُلِّ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَفِّلًا بِمَصَالِحِ الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْبَقَرَةِ: 2 .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُحِبُّ تَعْظِيمَهُمْ.
أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَلْطَافِ مَتَى أُمْكِنَتْ وَجَبَتْ عِنْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ إِلَّا أَدَاءُ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، بَلِ الْمُؤْمِنُ فَعَلَ مَا لِأَجْلِهِ اسْتَوْجَبَ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ الْمَزِيدَ مِنَ اللُّطْفِ.
أَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَلِيُّ الْمُؤْمِنِ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا عَلَى اللَّهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ، فَيَكُونُ وَلِيُّهُ هُوَ نَفْسَهُ وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ وَلِيًّا لَهُ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِوِلَايَةِ اللَّهِ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَنَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنِ الْكَافِرِ فِي بَابِ الْوِلَايَةِ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ وَلِيُّ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْعَبْدَ نَفْسَهُ لَا غَيْرَ.
وَأَمَّا السؤال الرابع: وهو أن الولاية هاهنا مَعْنَاهَا الْمَحَبَّةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ مَعْنَاهَا إِعْطَاءُ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّؤَالُ الثَّانِي، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هاهنا مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فَتَكُونُ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْإِنْسَانَ مِنَ الْكُفْرِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْآيَةِ.
أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ مَحْمُولٌ عَلَى نَصْبِ/ الدَّلَائِلِ، وَإِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِيمَانِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَالتَّحْذِيرِ عَنِ الْكُفْرِ بِأَقْصَى الْوُجُوهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِضْلَالَ إِلَى الصَّنَمِ فِي قَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ إِبْرَاهِيمَ: 36 لِأَجْلِ أَنَّ الْأَصْنَامَ سَبَبٌ بِوَجْهٍ ما لضالهم، فَأَنْ يُضَافَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي فَعَلَهَا بِمَنْ يُؤْمِنُ كَانَ أَوْلَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْدِلُ بِهِمْ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَدْخَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هذه الإضافة حقيقة في الفعل، مجاز فِي الْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ إِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِي تَرْجِيحِ الدَّاعِيَةِ صَارَ الرَّاجِحُ وَاجِبًا، وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعًا، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ لَمْ يَصِحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالْإِخْرَاجِ.