كُلُّهَا شَرِيفَةً أَوْ كُلُّهَا خَسِيسَةً أَوْ تَكُونَ مُتَوَسِّطَةً أَوْ تَكُونَ مُخْتَلِطَةً، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ شَرِيفًا كَانَ الْمَأْخُوذُ بِحِسَابِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كان الكل خسيساً كان الزَّكَاةُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْخَسِيسِ وَلَا يَكُونُ خِلَافًا لِلْآيَةِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَكُونُ خَسِيسًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَلْ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ جَيِّدٌ وَرَدِيءٌ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ لَا تَجْعَلِ الزَّكَاةَ مِنْ رَدِيءِ مَالِكَ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَالُ مُخْتَلِطًا فَالْوَاجِبُ هُوَ الْوَسَطُ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتَرُدُّ إِلَى فُقَرَائِهِمْ وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»
هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، أَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ، فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِأَفْضَلِ مَا يَمْلِكُونَهُ، كَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ التُّحْفَةُ أَفْضَلَ مَا فِي مُلْكِهِ وَأَشْرَفَهَا، فَكَذَا هاهنا، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا الْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَجَوَابُهُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، وَأَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الطَّيِّبَاتِ لَمَّا حَصَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً حُذِفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: أَمَمْتُهُ، وَيَمَّمْتُهُ، وَتَأَمَّمْتُهُ، كُلُّهُ بِمَعْنَى قَصَدْتُهُ قَالَ الْأَعْشَى:
تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ
... مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَرَفِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ وَلا تَيَمَّمُوا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ تَاءَانِ تَاءُ الْمُخَاطَبَةِ، وَتَاءُ الْفِعْلِ فَأُدْغِمَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفَةً وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ فِي أَخَوَاتِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ مَوْضِعًا: لَا تَفَرَّقُوا، تَوَفَّاهُمُ، تَعَاوَنُوا، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ، تَلْقَفُ، تَوَلَّوْا، تَنَازَعُوا، تَرَبَّصُونَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا، لَا تَكَلَّمُ، تَلَقَّوْنَهُ، تَبَرَّجْنَ، تَبَدَّلَ، تَنَاصَرُونَ، تَجَسَّسُوا، تَنَابَزُوا، لِتَعَارَفُوا، تَمَيَّزُ، تَخَيَّرُونَ، تلهى، تلظى، تنزل الملائكة، وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الْإِدْغَامُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْمُدْغَمَ يُسَكَّنُ وَإِذَا سُكِّنَ لَزِمَ أَنْ تُجْلَبَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهِ، كَمَا جُلِبَتْ فِي أَمْثِلَةِ الْمَاضِي نَحْوَ: ادَّارَأْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ وَاطَّيَّرْنَا، لَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي التَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ التَّاءُ الْأُولَى وَسِيبَوَيْهِ لَا يُسْقِطُ إِلَّا الثَّانِيَةَ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: أَيُّهُمَا أُسْقِطَتْ جَازَ لِنِيَابَةِ الْبَاقِيَةِ عَنْهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُ تُنْفِقُونَ.
فَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثُمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَقَوْلُهُ مِنْهُ تُنْفِقُونَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَمِنَهُ تُنْفِقُونَ مَعَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا مَعَ الْإِغْمَاضِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَيَكُونُ الَّذِي مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ الَّذِي تُنْفِقُونَهُ وَلَسْتُمْ بآخذيه إلا