الَّذِي عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ إِقْرَارُ وَلَيِّهِ.
ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِدْخَالُ حَرْفِ (أَوْ) بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي السَّفِيهَ، وَالضَّعِيفَ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ يَقْتَضِي كَوْنَهَا أُمُورًا مُتَغَايِرَةً، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، فَيَجِبُ فِي الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَغَايِرَةً، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُ السَّفِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ الرَّأْيِ نَاقِصِ الْعَقْلِ مِنَ الْبَالِغِينَ، وَالضَّعِيفِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالشَّيْخِ الْخَرِفِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعَقْلَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالَّذِي لا يستطيع لأن يُمِلَّ مَنْ يَضْعُفُ لِسَانُهُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِخَرَسٍ، أَوْ جَهْلِهِ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الْإِمْلَاءُ وَالْإِقْرَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُمْ مَقَامَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَالْمُرَادُ وَلِيُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ السَّفِيهِ، وَوَلِيَّ الصَّبِيِّ: هُوَ الَّذِي يُقِرُّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، كما يقرب بِسَائِرِ أُمُورِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ: الْمُرَادُ بِوَلِيِّهِ وَلِيُّ الدَّيْنِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُمْلِي وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُدَايَنَةِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكِتَابَةِ هُوَ الِاسْتِشْهَادُ لِكَيْ يُتَمَكَّنَ بِالشُّهُودِ عِنْدَ الْجُحُودِ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى تَحْصِيلِ الْحَقِّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَشْهِدُوا أَيْ أَشْهِدُوا يُقَالُ: أَشْهَدْتُ الرَّجُلَ وَاسْتَشْهَدْتُهُ، بِمَعْنًى: وَالشَّهِيدَانِ هُمَا الشَّاهِدَانِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ رِجالِكُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْأَحْرَارَ وَالثَّالِثُ: مِنْ رِجالِكُمْ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهُمْ لِلشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْعَدَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ كَثِيرَةٌ مذكورة في كتب الفقه، ونذكر هاهنا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ شُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تَجُوزُ، حُجَّةُ شُرَيْحٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَغَيْرَهُمْ، وَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَيْضًا دَالٌّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ وَدِينَهُ وَعَدَالَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ تَأَكَّدَ بِهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِحْيَاءِ حَقِّهِ، وَالْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْعَدَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِسَبِبِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ مَقْبُولَةً، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ شَاهِدًا الذَّهَابُ إِلَى مَوْضِعِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ الذَّهَابِ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ شَاهِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الذَّهَابُ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الذَّهَابُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ شَاهِدًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَسَنٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمُ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهُمْ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ الْعَبِيدَ كَذَلِكَ.