ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ وَفِي ارْتِفَاعِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ:
فَلْيَكُنَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالثَّانِي: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالثَّالِثُ: فَالشَّاهِدُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالرَّابِعُ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ كُلُّ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ جَائِزٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ الطَّلَاقِ: 2 وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ صَالِحًا لِلشَّهَادَةِ وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: شَرَائِطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَشَرَةٌ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا مُسْلِمًا عَدْلًا عَالِمًا بِمَا شَهِدَ بِهِ وَلَمْ يَجُرَّ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً إِلَى نَفْسِهِ وَلَا يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّةً عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بترك المروأة، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَالْمَعْنَى أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبُ طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ فِي أَمْزِجَتِهِنَّ وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ ثُمَّ فِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ أَنْ تَضِلَّ بِكَسْرِ إِنْ فَتُذَكِّرَ بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: الْجَزَاءُ مَوْضِعُ تَضِلَّ جَزْمٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ فِي التَّضْعِيفِ فَتُذَكِّرَ رُفِعَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْجَزَاءِ مُبْتَدَأٌ/ وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا بِنَصْبِ (أَنْ) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَضِلَّ، فَحُذِفَ مِنْهُ الْخَافِضُ وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ إِرَادَةُ أَنْ تَضِلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ والإشهاد للاذكار لا الإضلال.
قلنا: هاهنا غَرَضَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْإِشْهَادِ، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِتَذْكِيرِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ الثَّانِيَةَ وَالثَّانِي:
بَيَانُ تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ إِقَامَةَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي ضَلَالِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْإِشْهَادَ، وَبَيَانَ فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَقْصُودًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِضَلَالِ إِحْدَاهُمَا وَتَذَكُّرِ الْأُخْرَى، لَا جَرَمَ صَارَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ مَطْلُوبَيْنِ، هَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وقت كتبه هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِلنَّحْوِيِّينَ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى مَا اسْتَحْسَنْتُهَا وَالْكُتُبُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّلَالُ فِي قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّسْيَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَّ فِي الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ، وَالْوَجْهَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الضَّلَالِ فِي اللُّغَةِ الْغَيْبُوبَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ فَتُذَكِّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّصْبِ، وَهُمَا لُغَتَانِ ذَكَّرَ وَأَذْكَرَ نَحْوُ نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، وَالتَّشْدِيدُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ الْغَاشِيَةِ: 21 وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَقَدْ جَعَلَ الْفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِهَمْزَةِ الْأَفْعَالِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ وَالْإِذْكَارَ مِنَ النِّسْيَانِ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أَنْ تَجْعَلَهَا ذَكَرًا يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مِثْلُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، قَالَ: إِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ جَاءَتِ الْأُخْرَى فَشَهِدَتْ مَعَهَا أَذْكَرَتْهَا، لِأَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسَاءَ لَوْ بَلَغْنَ مَا بَلَغْنَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُنَّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَرْأَةُ الثَّانِيَةُ مَا ذَكَّرَتِ الأولى.