فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَدْخُلُ الْحَبَّةُ وَالْقِيرَاطُ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟.
قُلْنَا: لَا لِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ، لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكْتُبُوا التَّافِهَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (أَنْ) فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِوَجْهَيْنِ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرًا فَتَقْدِيرُهُ: وَلَا تَسْأَمُوا كِتَابَتَهُ، وَإِنْ شِئْتَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَسْأَمُوا مِنْ أَنْ تَكْتُبُوهُ إِلَى أَجَلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنْ تَكْتُبُوهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعُودَ إِلَى المذكور سابقاً، وهو هاهنا إِمَّا الدَّيْنُ وَإِمَّا الْحَقُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ (وَلَا يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتُبُوهُ) بِالْيَاءِ فِيهِمَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تعالى بيّن أن الكتبة مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ الثَّلَاثِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ ذلِكُمْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ تَكْتُبُوهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ ذَلِكَ الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَالثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَلِكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ لِأَهْلِ الرِّضَا وَمَعْنَى أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْقِسْطُ اسْمٌ، وَالْإِقْسَاطُ مَصْدَرٌ، يُقَالُ:
أَقْسَطَ فُلَانٌ فِي الْحُكْمِ يُقْسِطُ إِقْسَاطًا إِذَا عَدَلَ فَهُوَ مُقْسِطٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الممتحنة:
8 الحجرات: 9 وَيُقَالُ: هُوَ قَاسِطٌ إِذَا جَارَ، قَالَ تَعَالَى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
الْجِنِّ: 15 وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا كَانَ إِلَى الْيَقِينِ وَالصِّدْقِ أَقْرَبَ، وَعَنِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ أَبْعَدَ، فَكَانَ أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الْأَحْزَابِ: 5 أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ أَنْ تَنْسِبُوهُمْ إِلَى غير آبائهم.
والفائدة الثانية: قوله أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ مَعْنَى أَقْوَمُ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِقَامَةِ، الَّتِي هِيَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْتَصِبَ الْقَائِمَ، ضِدُّ الْمُنْحَنِي الْمُعْوَجِّ.
فَإِنْ قِيلَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ؟ أَعْنِي: أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ.
قُلْنَا: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْسَطُ مِنْ قَاسِطٍ، وَأَقْوَمُ مِنْ قَوِيمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ إِنَّمَا كَانَتْ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْحِفْظِ وَالذِّكْرِ، فَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَنَّ الْأُولَى: تَتَعَلَّقُ بِتَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةَ: / بِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الدِّينَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدُّنْيَا.
وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ قَوْلُهُ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يَعْنِي أَقْرَبُ إِلَى زَوَالِ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ عَنْ قُلُوبِ الْمُتَدَايِنِينَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهَذَا الثَّالِثِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُشِيرَانِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، فَالْأَوَّلُ: إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ، وَالثَّانِي: إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا وَهَذَا الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَعَنِ الْغَيْرِ، أَمَّا عَنِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي الْفِكْرِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَيْفَ كَانَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْتُ هَلْ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَأَمَّا دفع الضرر عَنِ الْغَيْرِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ رُبَّمَا نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَقَعُ فِي عِقَابِ الْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَمَا أَدْخَلَهَا فِي الْقِسْطِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا فِيهَا مِنَ الترتيب.