وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِأَفْعَالِهِ، فَبِأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ، وَتَعْلَمَ بِبَدِيهَةِ عَقْلِكَ أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمُحْدِثَ لَا يُوجَدُ بِذَاتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ يُوجِدُهُ وَهُوَ الْقَدِيمُ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تَجْزِمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِتَخْلِيقِهِ وَإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ عُقْدَةٌ وَهِيَ الْحَوَادِثُ الَّتِي هِيَ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لِلْحَيَوَانَاتِ، فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ مُحْدَثَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِهَا إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ مُطَّرِدٌ فِيهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي أَنِّي إِنْ شِئْتُ أَنْ أَتَحَرَّكَ تَحَرَّكْتُ، وَإِنْ شِئْتُ أَنْ لَا أَتَحَرَّكَ لَمْ أَتَحَرَّكْ فَكَانَتْ حَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي بِي لَا بِغَيْرِي.
فَنَقُولُ: قَدْ عَلَّقْتَ حَرَكَتَكَ بِمَشِيئَتِكَ لِحَرَكَتِكَ، وَسُكُونَكَ بِمَشِيئَتِكَ لِسُكُونِكَ، فَقَبْلَ حُصُولِ مَشِيئَةِ الْحَرَكَةِ لَا تَتَحَرَّكُ وَقَبْلَ حُصُولِ مَشِيئَةِ السُّكُونِ لَا تَسْكُنُ، وَعِنْدَ حُصُولِ مَشِيئَةِ الْحَرَكَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَتَحَرَّكَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْمَشِيئَةُ كَيْفَ حَدَثَتْ فَإِنَّ حُدُوثَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا بِمُحْدِثٍ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ بِمُحْدِثٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحْدِثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَبْدَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ حَدَثَتْ لَا بِمُحْدِثٍ فَقَدْ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ فِي إِحْدَاثِهَا إِلَى مَشِيئَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحْدِثَهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا اخْتِيَارَ لِلْإِنْسَانِ فِي حُدُوثِ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَبَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي تَرَتُّبِ الفعل عليها إلا المشيئة به، ولا حصول الفعل بَعْدَ الْمَشِيئَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، فَهَذَا كَلَامٌ قَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَفِي مُعَارَضَتِهِ إِشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَادُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُلُّ بِتَخْلِيقِهِ فَكَيْفَ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْعَبْدِ، فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ/ جَانِبِ الْخَصْمِ، إِلَّا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: فَهِيَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ فِي أَحْكَامِهِ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَحَدُهَا:
أَنَّهَا غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِعِلَّةٍ أَصْلًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ كَانَ صَاحِبُهُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ، كَامِلًا بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِهَا مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَبْدِ لَا إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ الْإِلْزَامَ وَالْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِّ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَبَّحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ وَمُلْكُهُ، وَالْمَمْلُوكَ الْمُجَازَى لَا حَقَّ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ الْمُجَازِي، فَكَيْفَ الْمَمْلُوكُ الْحَقِيقِيُّ مَعَ الْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ.
وأما المرتبة الْخَامِسَةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: فَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الْأَعْرَافِ:
180 وَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الْإِسْرَاءِ: 110 وَقَالَ فِي طه اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى طه: 8 وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَشْرِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْحَشْرِ: 24 وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى هِيَ الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ الْمَعْصُومِينَ، وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعَاقِدِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.