السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ أَنْ لَا يكلفه بالفعل الشاق قوله لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مَا لَا يُطَاقُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ عَكْسُ هَذَا التَّرْتِيبِ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ: الَّذِي أَتَخَيَّلُهُ فِيهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ لِلْعَبْدِ مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا: قِيَامُهُ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي:
شُرُوعُهُ فِي بَدْءِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ فَفِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ طَلَبَ تَرْكَ التَّشْدِيدِ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي قَالَ: لَا تَطْلُبْ مِنِّي حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ، وَلَا شُكْرًا يَلِيقُ بِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ، وَلَا مَعْرِفَةً تَلِيقُ بِقُدْسِ عَظَمَتِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِذِكْرِي وَشُكْرِي وَفِكْرِي وَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً مُقَدَّمًا فِي الذَّكْرِ عَلَى قوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا
... وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا
... وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ؟
وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ قَبُولَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَكْمَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْهِمَمِ تَأْثِيرَاتٍ فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْأَرْوَاحُ وَالدَّوَاعِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كان حصوله أكمل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا التَّرْكَ وَكَانَتْ مَقْرُونَةً بِلَفْظِ رَبَّنا وَأَمَّا هَذَا الدُّعَاءُ الرَّابِعُ، فَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ لَفْظُ رَبَّنا وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا لَفْظُ رَبَّنَا؟.
الْجَوَابُ: النِّدَاءُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْبُعْدِ، أَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ فَلَا وَإِنَّمَا حُذِفَ النِّدَاءُ إِشْعَارًا/ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى التَّضَرُّعِ نَالَ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى أَسْرَارٍ أُخَرَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ؟.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْعَفْوَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْعِقَابَ، وَالْمَغْفِرَةَ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ جُرْمَهُ صَوْنًا لَهُ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ وَالْفَضِيحَةِ، كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: أَطْلُبُ مِنْكَ الْعَفْوَ وَإِذَا عَفَوْتَ عَنِّي فَاسْتُرْهُ عَلَيَّ فَإِنَّ الْخَلَاصَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ إِنَّمَا يَطِيبُ إِذَا حَصَلَ عَقِيبَهُ الْخَلَاصُ مِنْ عَذَابِ الْفَضِيحَةِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ، وَالثَّانِي: هُوَ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ، فَلَمَّا تَخَلَّصَ مِنْهُمَا أَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ، وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ: ثَوَابٌ جُسْمَانِيٌّ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلَذَّاتُهَا وَطَيِّبَاتُهَا، وَثَوَابٌ رُوحَانِيٌّ وَغَايَتُهُ أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْكَشِفَ لَهُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ عُلُوُّ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرَ غَائِبًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، مُسْتَغْرِقًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي نُورِ حُضُورِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ وَارْحَمْنا طَلَبٌ لِلثَّوَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْتَ مَوْلانا طَلَبٌ لِلثَّوَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَلِأَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ تعالى لأن قوله أَنْتَ مَوْلانا خطاب الحاضرين، وَلَعَلَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَسْتَبْعِدُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ، وَلَقَدْ صَدَقُوا فِيمَا يَقُولُونَ، فَذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى النَّجْمِ: 30 .