قَبْلَهَا، فَصَارَتْ تَوْرَاةً وَكُتِبَتْ بِالْيَاءِ عَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالُوا: هَذَا الْبِنَاءُ نَادِرٌ، وَأَمَّا فَوْعَلَةٌ فَكَثِيرٌ، نَحْوَ: صَوْمَعَةٍ، وَحَوْصَلَةٍ، وَدَوْسَرَةٍ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى لُغَةِ طَيِّئٍ، وَالْقُرْآنُ مَا نَزَلَ بِهَا الْبَتَّةَ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي التَّوْرَاةِ قِرَاءَتَانِ: الْإِمَالَةُ وَالتَّفْخِيمُ، فَمَنْ فَخَّمَ فَلِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ يَمْنَعُ الْإِمَالَةَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ إِفْعِيلٌ مِنَ النَّجْلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، يُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ نَاجِلَيْهِ، أَيْ والديه، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم، لأن الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الدِّينِ وَالثَّانِي: قَالَ قَوْمٌ:
الْإِنْجِيلُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: نَجَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ وَأَظْهَرْتَهُ وَيُقَالُ لِلْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ: نَجْلٌ، وَيُقَالُ: قَدِ اسْتَنْجَلَ الْوَادِي، إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ مِنَ النَّزِّ فَسُمِّيَ الْإِنْجِيلُ إِنْجِيلًا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْحَقَّ بِوَاسِطَتِهِ وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: التَّنَاجُلُ التَّنَازُعُ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْكِتَابُ بِالْإِنْجِيلِ لِأَنَّ الْقَوْمَ تَنَازَعُوا فِيهِ وَالرَّابِعُ:
أَنَّهُ مِنَ النَّجْلِ الَّذِي هُوَ سَعَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ طَعْنَةٌ نَجْلَاءُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ سَعَةٌ وَنُورٌ وَضِيَاءٌ أَخْرَجَهُ لَهُمْ.
وَأَقُولُ: أَمْرُ هَؤُلَاءِ الْأُدَبَاءِ عَجِيبٌ كَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي كُلِّ لَفْظٍ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، / وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَلَمَّا كَانَا بَاطِلَيْنِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَلْفَاظٍ مَوْضُوعَةٍ وضعاًأولا:
حَتَّى يَجْعَلَ سَائِرَ الْأَلْفَاظِ مُشْتَقَّةً مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي جَعَلُوهُ مُشْتَقًّا مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ هُوَ هَذَا، وَالْفَرْعُ هُوَ ذَاكَ الْآخَرَ وَمَنِ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا فَرْعٌ وَذَاكَ أَصْلٌ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الَّذِي يَجْعَلُونَهُ فَرْعًا وَمُشْتَقًّا فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ، وَذَاكَ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ أَصْلًا فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتِ التَّوْرَاةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ تَوْرَاةٌ لِظُهُورِهَا، وَالْإِنْجِيلُ إِنَّمَا سُمِّيَ إِنْجِيلًا لِكَوْنِهِ أَصْلًا وَجَبَ فِي كُلِّ مَا ظَهَرَ أَنْ يُسَمَّى بِالتَّوْرَاةِ فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ كُلِّ الْحَوَادِثِ بِالتَّوْرَاةِ، وَوَجَبَ فِي كُلِّ مَا كَانَ أَصْلًا لِشَيْءٍ آخَرَ أَنْ يُسَمَّى بِالْإِنْجِيلِ، وَالطِّينُ أَصْلُ الْكُوزِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطِّينُ إِنْجِيلًا وَالذَّهَبُ أَصْلُ الْخَاتَمِ وَالْغَزْلُ أَصْلُ الثَّوْبِ فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِنْجِيلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْإِلْزَامَاتِ عَلَيْهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْوَضْعِ، وَيَقُولُوا: الْعَرَبُ خَصَّصُوا هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بِهَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْوَضْعِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَلِمَ لَا نَتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَنُرِيحُ أَنْفُسَنَا مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَأَيْضًا فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ أَحَدُهُمَا بِالْعِبْرِيَّةِ وَالْآخَرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِتَطْبِيقِهَا عَلَى أَوْزَانِ لُغَةِ الْعَرَبِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَاللَّهُ أعلم.
سورة آل عمران (3) : آية 4مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ قَبْلَ أَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَهُمَا هُدًى لِلنَّاسِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَمًى عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَيْسَ بِهُدًى لَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى فُصِّلَتْ: 44 أَنَّ عِنْدَ نُزُولِهِ اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً نُوحٍ: 6 لَمَّا فَرُّوا عِنْدَهُ.