وَيُمْلِكُ كُلَّ مَالِكٍ مَمْلُوكَهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مالِكَ الْمُلْكِ أَيْ يَمْلِكُ جِنْسَ الْمُلْكِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِيمَا يَمْلِكُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ مالِكَ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنْوَاعًا خَمْسَةً:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ: مُلْكُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً النِّسَاءِ: 54 وَالنُّبُوَّةُ أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْمُلْكِ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ عَلَى بَوَاطِنِ الْخَلْقِ وَالْجَبَابِرَةُ لَهُمْ أَمْرٌ عَلَى ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ وَالْأَنْبِيَاءُ أَمْرُهُمْ نَافِذٌ فِي الْبَوَاطِنِ وَالظَّوَاهِرِ، فَأَمَّا عَلَى الْبَوَاطِنِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ دِينَهُمْ وَشَرِيعَتَهُمْ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَمَّا عَلَى الظَّوَاهِرِ فَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَمَرَّدُوا وَاسْتَكْبَرُوا لَاسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْتَبْعِدُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَشَرًا رَسُولًا فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا الْإِسْرَاءِ: 94 وَقَالَ اللَّهُ/ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا الْأَنْعَامِ: 9 وَقَوْمٌ آخَرُونَ جَوَّزُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا فَقِيرٌ يَتِيمٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْمَنْصِبُ الْعَظِيمُ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الزُّخْرُفِ: 31 وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكَانُوا يَقُولُونَ النُّبُوَّةُ كَانَتْ فِي آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا، وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهُمْ مَا كَانُوا أَهْلَ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ فَكَيْفَ يَلِيقُ النُّبُوَّةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ عَلَى النُّبُوَّةِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النِّسَاءِ: 37 .
وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ آلِ عِمْرَانَ: 12 أَنَّ الْيَهُودَ تَكَبَّرُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَى جَمِيعِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ فَيُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، فَقَالَ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ عَلَى إِيتَاءِ مُلْكِ النُّبُوَّةِ، وَجَبَ أَنْ تَحْمِلُوا قَوْلَهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْزِلُ عَنِ النُّبُوَّةِ مَنْ جَعَلَهُ نَبِيًّا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَعَلَ النُّبُوَّةَ فِي نَسْلِ رَجُلٍ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ نَسْلِهِ، وَشَرَّفَ بِهَا إِنْسَانًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّسْلِ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَعَهَا مِنْهُمْ، وَالْيَهُودُ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَنْزِعُ مُلْكَ النُّبُوَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعَرَبِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ أَيْ تَحْرِمُهُمْ وَلَا تُعْطِيهِمْ هَذَا الْمُلْكَ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْلُبُهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الْبَقَرَةِ: 257 مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ قَطُّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا الْأَعْرَافِ: 88 وَأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ قَالُوا وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الْأَعْرَافِ: 89 مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا فِيهَا قَطُّ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهَ تَعَالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ بِمُلْكِ النُّبُوَّةِ.