الْفَاعِلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَبْدَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ لِنَفْسِهِ، بَلْ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ وَالْهِدَايَةَ فَلَمَّا أَرَادَ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَلْ حَصَلَ لَهُ الْجَهْلُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْعَبْدِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ شُبْهَةٍ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ابْتِدَاءً، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لَوْ كَانَ كُلُّ جَهْلٍ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِجَهْلٍ آخَرَ يَسْبِقُهُ وَيَتَقَدَّمُهُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْجِهَاتُ تَنْتَهِي إِلَى جَهْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مُوجِبٍ الْبَتَّةَ لَكِنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَصِيرَ عَلَى الْجَهْلِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِإِذْلَالِ اللَّهِ عَبْدَهُ وَبِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُ الثَّالِثُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الدَّاعِي وَالْمُرَجِّحِ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْخَيْرِ كَانَ إِعْزَازًا، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْجَهْلِ وَالشَّرِّ وَالضَّلَالَةِ كَانَ إِذْلَالًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعِزَّ وَالْمُذِلَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيَدِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالْمَعْنَى بِقُدْرَتِكَ الْخَيْرُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْخَيْرِ يُوجِبَانِ الْعُمُومَ، فَالْمَعْنَى بِقُدْرَتِكَ تَحْصُلُ كُلُّ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَأَنَّهُ قَالَ بِيَدِكَ الْخَيْرُ لَا بِيَدِ غَيْرِكِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرين: 6 أَيْ لَكُمْ دِينُكُمْ أَيْ لَا لِغَيْرِكُمْ وَذَلِكَ الْحَصْرُ يُنَافِي حُصُولَ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَبِتَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَإِيجَادِهِ وَإِبْدَاعِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ مِنْ تَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ تَخْلِيقِ الْعَبْدِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ظَاهِرٌ وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ زَادَ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَالَ: كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ كَانَ ذَلِكَ الْفَاعِلُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْآخَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْ كُلِّ مَا سِوَى الْإِيمَانِ فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لَا بِخَلْقِ اللَّهِ لَوَجَبَ كَوْنُ الْعَبْدِ زَائِدًا فِي الْخَيْرِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ قَبِيحٌ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِكَ إِلَّا الْخَيْرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ وَاقِعَيْنِ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ يُفِيدُ أَنَّ بِيَدِهِ الْخَيْرَ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِيَدِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَبِيَدِهِ مَا سِوَى الْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْخَيْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ فَوَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ خَيْرٍ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ وَهَدَاهُمْ إِلَيْهِ لَمَا تَمَكَّنُوا مِنْهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ بَعْضُ الْخَيْرِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَصِيرُ أَشْرَفُ الْخَيْرَاتِ مُضَافًا إِلَى الْعَبْدِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّصِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ مَالِكًا لِإِيتَاءِ الْمُلْكِ وَنَزْعِهِ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَجْعَلَ اللَّيْلَ قَصِيرًا وَيَجْعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ دَاخِلًا فِي النَّهَارِ وَتَارَةً عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ