الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا كُسِرَتِ الذَّالُ مِنْ يَتَّخِذِ لِأَنَّهَا مَجْزُومٌ لِلنَّهْيِ، وَحُرِّكَتْ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ رُفِعَ عَلَى الْخَبَرِ لَجَازَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الرَّفْعِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ الْكَافِرَ وَلِيًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ يَتَقَارَبَانِ لِأَنَّهُ مَتَّى كَانَتْ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُوَالِيَ الْكَافِرَ كَانَ لَا مَحَالَةَ مَنْهِيًّا عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِ، وَمَتَى كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، كَانَ لَا مَحَالَةَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَرِيقَتِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْبَقَرَةِ: 23 أَيْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ دُونَ مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ، تَقُولُ: زَيْدٌ جَلَسَ دُونَ عَمْرٍو أَيْ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ كَانَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ مُغَايِرٌ لَهُ فَجُعِلَ لَفْظُ دُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى غَيْرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَفِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَايَةِ يَعْنِي أَنَّهُ مُنْسَلِخٌ مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الْوَلِيِّ، وَمُوَالَاةَ عَدُوِّهِ ضِدَّانِ قَالَ الشَّاعِرُ:
تُوِدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي
... صَدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبٍ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَلَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا أَبْلَغُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: تُقَاةً بِالْإِمَالَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ: بَيْنَ التَّفْخِيمِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تَقِيَّةً وَإِنَّمَا جَازَتِ الْإِمَالَةُ لِتُؤْذِنَ أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ الْيَاءِ، وَتُقَاةً وَزْنُهَا فُعْلَةً نَحْوَ تُؤْدَةٍ وَتُخْمَةٍ، وَمَنْ فَخَّمَ فَلِأَجْلِ الْحَرْفِ الْمُسْتَعْلِي وَهُوَ الْقَافُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَقَيْتُهُ تُقَاةً، وَتُقًى، وَتُقْيَةً، وَتَقْوَى، فَإِذَا قُلْتَ اتَّقَيْتُ كان مصدره الأتقياء، وَإِنَّمَا قَالَ تَتَّقُوا ثُمَّ قَالَ تُقَاةً وَلَمْ يَقُلِ اتِّقَاءً اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: جَلَسَ جَلْسَةً، وَرَكِبَ رَكْبَةً، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً آلِ عِمْرَانَ: 37 وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْإِعْطَاءِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تُقَاةً هَاهُنَا مِثْلَ رُمَاةٍ فَيَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ الْحَسَنُ أَخَذَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ، فَقَالَ: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ / قَالَ: نَعَمْ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ، فَتَرَكَهُ وَدَعَا الْآخَرَ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَصَمُّ ثَلَاثًا، فَقَدَّمَهُ وَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقال: أَمَّا هَذَا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى يَقِينِهِ وَصِدْقِهِ فَهَنِيئًا لَهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النَّحْلِ: 106 .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّقِيَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا.
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَيَخَافُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ، بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ الْكَلَامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ