لِظُهُورِ الرُّوحِ الْقُدْسِيَّةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ إِسْحَاقَ مَبْدَأً لِشُعْبَتَيْنِ: يَعْقُوبَ وَعِيصُو، فَوَضَعَ النُّبُوَّةَ فِي نَسْلِ يَعْقُوبَ، وَوَضَعَ الْمُلْكَ فِي نَسْلِ عِيصُو، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِلَ نُورُ النُّبُوَّةِ وَنُورُ الْمُلْكِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَا أَعْنِي الدِّينَ وَالْمُلْكَ لِأَتْبَاعِهِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ وَصَلَ إِلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ. الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ المؤمنون، كما في قوله أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ غَافِرٍ: 46 وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْأَوْلَادُ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ الْبَقَرَةِ: 124 وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فيه، فمنهم من قال المراد عمران ولد مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِيَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ آلِ عِمْرَانَ مُوسَى وَهَارُونَ وَأَتْبَاعَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ: عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ وَالِدُ مَرْيَمَ، وَكَانَ هُوَ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا، وَكَانُوا مَنْ نَسْلِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالُوا وَبَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ قَوْلِهِ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ هُوَ عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ جَدُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فَكَانَ صَرْفُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يحتجون على إلهية عيس بِالْخَوَارِقِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ تَعَالَى اصْطَفَاهُ عَلَى الْعَالَمِينَ وَخَصَّهُ بِالْكَرَامَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَكَانَ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عِمْرَانَ وَالِدِ مُوسَى وَهَارُونَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَدِيدُ الْمُطَابَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ الْأَنْبِيَاءِ: 91 وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَيْسَتْ دَلَائِلَ قَوِيَّةً، بَلْ هِيَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ، وَأَصْلُ الِاحْتِمَالِ قَائِمٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَصْبِ قَوْلِهِ ذُرِّيَّةً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، أَيِ اصْطَفَاهُمْ فِي حَالِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: ذَرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالطَّاعَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ التَّوْبَةِ: 67 وَذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي النِّفَاقِ وَالثَّانِي:
ذَرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِمَعْنَى أَنَّ غَيْرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا مُتَوَلِّدِينَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ مَنْ سِوَى آدَمَ.
أما قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَقَالَ الْقَفَّالُ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ، عَلِيمٌ بِضَمَائِرِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصْطَفِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَعْلَمُ اسْتِقَامَتَهُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته الْأَنْعَامِ: 124 وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ الْأَنْبِيَاءِ: 90 وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْ آلِ عِمْرَانَ، فَنَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَاطِلٌ، إِلَّا أَنَّهُ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الْعَوَامِّ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ مِنْكُمْ، عَلِيمٌ بِأَغْرَاضِكُمُ الْفَاسِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ بَيَانًا لِشَرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَآخِرُهَا تَهْدِيدًا لِهَؤُلَاءِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.