أَمْرًا بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ بِالْقَلْبِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ فِي الْجَوَابِ: لَعَلَّهُ كَانَ السُّجُودُ فِي ذَلِكَ الدِّينِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرُّكُوعِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَمَّا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
وَالْجَوَابُ: قِيلَ مَعْنَاهُ: افْعَلِي كَفِعْلِهِمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ الْمُجَاوِرِينَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْتَلِطُ بِهِمْ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعَاتِ؟
وَالْجَوَابُ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالرِّجَالِ حَالَ الِاخْتِفَاءِ مِنَ الرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالنِّسَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: لَمَّا ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ شِفَاهًا، / قَامَتْ مَرْيَمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا وَسَالَ الدَّمُ وَالْقَيْحُ مِنْ قَدَمَيْهَا.
سورة آل عمران (3) : آية 44ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُ من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى ابن مَرْيَمَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ إِخْبَارِ الْغَيْبِ فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْلَمَهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نُفِيَتْ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ، وَانْتِفَاؤُهَا مَعْلُومٌ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَتُرِكَ نَفْيُ اسْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حُفَّاظِهَا وَهُوَ مَوْهُومٌ؟.
قُلْنَا: كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ عِلْمًا يَقِينِيًّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ، وَكَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ إِلَّا أَنَّهَا نُفِيَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِالْمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَا سَمَاعٌ وَلَا قِرَاءَةٌ، وَنَظِيرُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ الْقَصَصِ: 44 ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ الْقَصَصِ: 46 وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ يُوسُفَ: 102 وما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا هُودٍ: 49 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ عَمَّا غَابَ عَنْكَ، وَأَمَّا الْإِيحَاءُ فَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَجْمَعُهَا تَعْرِيفُ الْمُوحَى إِلَيْهِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يُعَدُّ الْإِلْهَامُ وَحْيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ النَّحْلِ: 68 وَقَالَ في الشياطين لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ الأنعام: 121 وَقَالَ: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَرْيَمَ: 11 فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْقَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَيْثُ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ سَمَّاهُ وَحْيًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْأَقْلَامِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الْقِرَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى عَكْسِ جَرْيِ الْمَاءِ فَالْحَقُّ مَعَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ صَارَ قَلَمُ زَكَرِيَّا كَذَلِكَ فَسَلَّمُوا الْأَمْرَ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَلْقَوْا عِصِيَّهُمْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي جَرَتْ عَصَا زكريا على