وَالْإِبْدَاعِ، لَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَدَهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَنْ وَجَبَ حَمْلُ الْخَلْقِ عَلَى التَّقْدِيرِ حَتَّى يَصِحَّ الْكَلَامُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ فِي الْمَاضِي كُلَّ مَا وُجِدَ الْآنَ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض
... الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَقَوْلُهُ:
وَلَا يعطي بِأَيْدِي الْخَالِقِينَ وَلَا
... أَيْدِي الْخَوَالِقِ إِلَّا جَيِّدُ الْأُدُمِ
وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ: فَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: خَلَقَ النَّعْلَ إِذَا قَدَّرَهَا وَسَوَّاهَا بِالْقِيَاسِ وَالْخَلَاقُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْخَيْرِ، وَفُلَانٌ خَلِيقٌ بِكَذَا، أَيْ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالصَّخْرَةُ الْخَلْقَاءُ الْمَلْسَاءُ، لِأَنَّ الْمَلَاسَةَ اسْتِوَاءٌ، وَفِي الْخُشُونَةِ اخْتِلَافٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ الْخالِقُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْخَالِقُ، لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الرَّعْدِ: 16 وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ فَاطِرٍ: 3 وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ فَاطِرٍ: 3 فَالْمَعْنَى هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ مَوْصُوفٌ بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَازِقًا مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ قَوْلِنَا الْخَالِقُ الَّذِي يَكُونُ هَذَا شَأْنَهُ، لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ، صِدْقُ قَوْلِنَا إِنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ.
وَأَجَابُوا عَنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ لَكِنَّ الظَّنَّ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعِلْمُ ثَابِتٌ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ مَعْنَاهُ: أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ وَقَوْلُهُ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَالْهَيْئَةُ الصُّورَةُ الْمُهَيَّئَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَيَّأْتُ الشيء إذا قَدَّرْتَهُ وَقَوْلُهُ فَأَنْفُخُ فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الطِّينِ الْمُصَوَّرِ وَقَوْلُهُ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ فَيَكُونُ طَائِرًا بِالْأَلِفِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْبَاقُونَ طَيْراً عَلَى الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ وَالطَّيْرُ اسْمُ الْجِنْسِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ.
يُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ أَخَذُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلَيْهِ وَطَالَبُوهُ بِخَلْقِ خُفَّاشٍ، فَأَخَذَ طِينًا وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ، فَإِذَا هُوَ يَطِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ، وَكَانَتْ قِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ خَلَقَ أَنْوَاعًا مِنَ الطَّيْرِ وَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ رَقِيقٌ كَالرِّيحِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهَا بِالْفَتْحِ، ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي نَفْسِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصِّيَّةً، بِحَيْثُ مَتَى نَفَخَ فِي شَيْءٍ كَانَ نَفْخُهُ فِيهِ مُوجِبًا لِصَيْرُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ حَيًّا، أَوْ يُقَالُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَخْلُقُ الْحَيَاةَ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ بِقُدْرَتِهِ عِنْدَ نَفْخَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِهِ