مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْحَوَارِيُّونَ: هُمُ الْقَصَّارُونَ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ فَقَدْ صَارَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ دَلِيلًا عَلَى خَوَاصِّ الرَّجُلِ وَبِطَانَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَوَارِيِّينَ مَنْ كَانُوا؟.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ فَقَالَ لَهُمْ «تَعَالَوْا نَصْطَادُ النَّاسَ» قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» فَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَ عَلَى مَا قَالَ فَلَمَّا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ آمَنُوا بِهِ، فَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالُوا: سَلَّمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى صَبَّاغٍ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا كَانَ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُ وَأَرَادَ الصَّبَّاغُ أَنْ يَغِيبَ لِبَعْضِ مُهِمَّاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: هَاهُنَا ثِيَابٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ عَلَّمْتُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَامَةً مُعَيَّنَةً، فَاصْبُغْهَا بِتِلْكَ الْأَلْوَانِ، بِحَيْثُ يَتِمُّ الْمَقْصُودُ عِنْدَ رُجُوعِي، ثُمَّ غَابَ فَطَبَخَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جُبًّا وَاحِدًا، وَجَعَلَ الْجَمِيعَ فِيهِ وَقَالَ: «كُونِي بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا أُرِيدُ» فَرَجَعَ الصَّبَّاغُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ فَقَالَ: قَدْ أَفْسَدْتَ عَلَيَّ الثِّيَابَ، قَالَ: «قُمْ فَانْظُرْ» فَكَانَ يُخْرِجُ ثَوْبًا أَحْمَرَ، وَثَوْبًا أَخْضَرَ، وَثَوْبًا أَصْفَرَ كَمَا كَانَ يُرِيدُ، إِلَى أَنْ أَخْرَجَ الْجَمِيعَ عَلَى الْأَلْوَانِ الَّتِي أَرَادَهَا، فَتَعَجَّبَ الْحَاضِرُونَ مِنْهُ، وَآمَنُوا بِهِ فَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: كَانُوا الْحَوَارِيُّونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا إِذَا قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ جُعْنَا، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ رَغِيفَانِ، وَإِذَا عَطِشُوا قَالُوا يَا رُوحَ اللَّهِ: عَطِشْنَا، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَخْرُجُ الْمَاءُ فَيَشْرَبُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَفْضَلُ مِنَّا إِذَا شِئْنَا أَطْعَمْتَنَا، وَإِذَا شِئْنَا سَقَيْتَنَا، وَقَدْ آمَنَّا بِكَ فَقَالَ:
«أَفْضَلُ مِنْكُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ/ كَسْبِهِ» فَصَارُوا يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ بِالْكِرَاءِ، فَسُمُّوا حَوَارِيِّينَ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُلُوكًا قَالُوا وَذَلِكَ أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْمُلُوكِ صَنَعَ طَعَامًا، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَصْعَةٍ مِنْهَا، فَكَانَتِ الْقَصْعَةُ لَا تَنْقُصُ، فَذَكَرُوا هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِذَلِكَ الْمَلِكَ، فَقَالَ: تَعْرِفُونَهُ، قَالُوا:
نَعَمْ، فَذَهَبُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ فَإِنِّي أَتْرُكُ مُلْكِي وَأَتْبَعُكَ فَتَبِعَهُ ذَلِكَ الْمَلِكُ مَعَ أَقَارِبِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْحَوَارِيِّينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْمُلُوكِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ الْقَصَّارِينَ، وَالْكُلُّ سُمُّوا بِالْحَوَارِيِّينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَنْصَارَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَعْوَانَهُ، وَالْمُخْلِصِينَ فِي مَحَبَّتِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَخِدْمَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أَيْ نَحْنُ أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ وَأَنْصَارُ أَنْبِيَائِهِ، لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى ذِكْرِ الْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَنْصَارِ اللَّهِ، لِأَجْلِ أَنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يُوجِبُ نُصْرَةَ دِينِ اللَّهِ، وَالذَّبَّ عَنْ أَوْلِيَائِهِ، وَالْمُحَارَبَةَ مَعَ أَعْدَائِهِ.
ثُمَّ قَالُوا: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِشْهَادَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، إِشْهَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ وَاشْهَدْ أَنَّا مُنْقَادُونَ لِمَا تُرِيدُهُ مِنَّا فِي نُصْرَتِكَ، وَالذَّبِّ عَنْكَ، مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ دِينَهُمُ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ دِينُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَشْهَدُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَعَلَى إِسْلَامِهِمْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: