الْجَمْعِ بِمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا لِغَيْرِ أَتْبَاعِكُمْ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَقِّ وَيُغَالِبُونَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ ضَعِيفٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ جِدَّ الْقَوْمِ فِي حِفْظِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ جِدِّهِمْ فِي حِفْظِ غَيْرِ أَتْبَاعِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِقْرَارِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَانِبِ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْتَلُّ النَّظْمُ وَيَقَعُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا بُدَّ مِنَ الْحَذْفِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ (قُلْ) فِي قَوْلِهِ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فِيمَا بَيْنَ جُزْأَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ؟ فَإِنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِيمِ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كلام أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْحِكَايَةِ عَنِ الْيَهُودِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلًا بَاطِلًا لَا جَرَمَ أَدَّبَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُقَابِلَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حِكَايَةِ تَمَامِ كَلَامِهِمْ كَمَا إِذَا حَكَى الْمُسْلِمُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ قَوْلًا فِيهِ كُفْرٌ، فَيَقُولُ: عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ آمَنْتُ بِاللَّهِ، أَوْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ يَقُولُ تَعَالَى اللَّهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى تَمَامِ الْحِكَايَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ بِتَمَامِ قَوْلِ الْيَهُودِ إِلَى قَوْلِهِ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُحَاجَّتِهِمْ فِي هَذَا وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
الْإِشْكَالُ الْخَامِسُ: فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمُصَدِّقِ بِحَرْفِ اللَّامِ لَا يُقَالُ صَدَّقْتُ لِزَيْدٍ بَلْ يُقَالُ: صَدَّقْتُ زَيْدًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُؤْتى لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَا تُصَدِّقُوا إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْحَذْفُ وَالْإِضْمَارُ وَسُوءُ النَّظْمِ وَفَسَادُ الْمَعْنَى، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ الْإِيمَانُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ الْمَعْنَى:
وَلَا تُقِرُّوا بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ اللَّامُ زَائِدَةً، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْبَاءِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا مُحَصِّلُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤْمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ، وَيَكْفُرُوا آخِرَهُ، / لِيَصِيرَ ذَلِكَ شُبْهَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ.
فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَعَ كَمَالِ هِدَايَةِ اللَّهِ وَقُوَّةِ بَيَانِهِ لَا يَكُونُ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ قُوَّةٌ وَلَا أَثَرٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوا مِنَ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ.
فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الرِّسَالَةُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ، وَالْفَاضِلِ الزَّائِدِ عَلَى غَيْرِهِ فِي خِصَالِ الْخَيْرِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْفَضْلِ لِكُلِّ نَفْعٍ قَصَدَ بِهِ فَاعِلُهُ الْإِحْسَانَ إِلَى الْغَيْرِ وَقَوْلُهُ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ إِنَّهُ مَالِكٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ هُوَ تَفَضُّلٌ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ تَحْصُلُ بِالتَّفَضُّلِ لَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ الَّذِي لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِقِّ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ واسِعٌ