الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَةِ؟ قَالَ الْقَفَّالُ فِي الْجَوَابِ: الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَيَانُ شِدَّةِ سُخْطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ كَلَامَهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِسُخْطِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِذَا سَخِطَ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ، قَالَ لَهُ لَا أُكَلِّمُكَ، وَقَدْ يَأْمُرُ بِحَجْبِهِ عَنْهُ وَيَقُولُ لَا أَرَى وَجْهَ فُلَانٍ، وَإِذَا جَرَى ذِكْرُهُ لَمْ يَذْكُرْهُ بِالْجَمِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كِنَايَاتٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَوْلِيَاءَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ سَفِيرٍ تَشْرِيفًا عَالِيًا يَخْتَصُّ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، وَلَا يُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ وَالْفُسَّاقَ، وَتَكُونُ الْمُحَاسَبَةُ مَعَهُمْ بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُهُمْ بِكَلَامٍ يَسُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ وَالْمُعْتَدُّ هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ، يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَنْظُرُ إِلَى فُلَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالسَّبَبُ لِهَذَا الْمَجَازِ أَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَأَعَادَ نَظَرَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ نَظَرُ اللَّهِ عِبَارَةً عَنِ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ الرُّؤْيَةَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَرَاهُمْ كَمَا يَرَى غَيْرَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّظَرِ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ إِلَى جَانِبِ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَتَعَالَى إِلَهُنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَقَدِ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ (إِلَى) لَيْسَ لِلرُّؤْيَةِ وَإِلَّا لَزِمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى رَائِيًا لَهُمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلا يُزَكِّيهِمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُطَهِّرَهُمْ مِنْ دَنَسِ ذُنُوبِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: لَا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْأَزْكِيَاءِ وَالتَّزْكِيَةُ مِنَ الْمُزَكِّي لِلشَّاهِدِ مَدْحٌ مِنْهُ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَزْكِيَةَ اللَّهِ عِبَادَهُ قَدْ تَكُونُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الرَّعْدِ: 23، 24 وَقَالَ: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ الأنبياء: 103 نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فصلت: 21 وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَكَقَوْلِهِ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ التَّوْبَةِ: 112 وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَكَقَوْلِهِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يس: 58 .
وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ بَيَّنَ كَوْنَهُمْ فِي الْعِقَابِ الشَّدِيدِ الْمُؤْلِمِ.
سورة آل عمران (3) : آية 78وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ نَازِلَةٌ فِي الْيَهُودِ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ نَازِلَةً فِي الْيَهُودِ أَيْضًا/ وَاعْلَمْ أَنَّ (اللَّيَّ) عِبَارَةٌ عَنْ عَطْفِ الشَّيْءِ وَرَدِّهِ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ، يُقَالُ: لَوَيْتُ يَدَهُ، وَالْتَوَى الشَّيْءُ إِذَا انْحَرَفَ وَالْتَوَى فُلَانٌ عَلَيَّ إِذَا غَيَّرَ أَخْلَاقَهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى ضِدِّهِ، وَلَوَى لِسَانَهُ عَنْ كَذَا إِذَا غَيَّرَهُ، وَلَوَى فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ إِذَا أَمَالَهُ عَنْهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ»
وَقَالَ تَعَالَى: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ النِّسَاءِ: 46 .