فِي الْوَضْعِ وَالْبِنَاءِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا وَهُدًى فَحَصَلَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَوَّلٌ فِي الْبِنَاءِ وَالْوَضْعِ، وَالذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَهُمْ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: مَا رَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي «الْبَسِيطِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرَضِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَإِنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مَلَائِكَتَهُ فَقَالَ ابْنُوا لِي فِي الْأَرْضِ بَيْتًا عَلَى مِثَالِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ» .
وَأَيْضًا وَرَدَ فِي سَائِرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ عِنْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَكَانَ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ تَحْتَهُ،
قَالَ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : رَوَى حَبِيبُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُجِدَ فِي كِتَابٍ فِي الْمَقَامِ أَوْ تَحْتَ الْمَقَامِ «أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ وَضَعْتُهَا يَوْمَ وَضَعْتُ الشَّمْسَ والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحففتها بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ»
وَثَانِيهَا: أَنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ شَكَا الْوَحْشَةَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَطَافَ بِهَا، وَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطُّوفَانَ، رَفَعَ الْبَيْتَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حِيَالَ الْكَعْبَةِ، يَتَعَبَّدُ عِنْدَهُ الْمَلَائِكَةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ سِوَى مَنْ دَخَلَ مِنْ قَبْلُ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ الطُّوفَانِ انْدَرَسَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، وَبَقِيَ مُخْتَفِيًا إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَلَّهُ عَلَى مَكَانِ الْبَيْتِ، وَأَمَرَهُ بِعِمَارَتِهِ، فَكَانَ الْمُهَنْدِسُ جِبْرِيلَ وَالْبَنَّاءُ إِبْرَاهِيمَ وَالْمُعِينُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا/ هُوَ الْأَصْوَبُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَكْلِيفَ الصَّلَاةِ كَانَ لَازِمًا فِي دِينِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا مَرْيَمَ: 58 فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ وَالسَّجْدَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قِبْلَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ قِبْلَةُ شِيثٍ وَإِدْرِيسَ وَنُوحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَوْضِعًا آخَرَ سِوَى الْقِبْلَةِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قِبْلَةَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ هِيَ الْكَعْبَةُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ كَانَتْ أَبَدًا مُشَرَّفَةً مُكَرَّمَةً الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مَكَّةَ أُمَّ الْقُرَى، وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ سَابِقَةً عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ مُنْذُ كَانَتْ مَوْجُودَةً الثَّالِثُ:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «أَلَا إِنَّ الله قد حرم مكة يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ»
وَتَحْرِيمُ مَكَّةَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ مَكَّةَ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآثَارَ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَجَّ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ»
وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَكَّةَ بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْبَيْتُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا ثُمَّ حَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّانِي: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ الْبَقَرَةِ: 127 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّ الْبَيْتَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ انْهَدَمَ، ثُمَّ أَمَرَ