لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْمَسْكَنَةَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَيْهِمْ غَيْرُ زَائِلَةٍ عَنْهُمْ، وَالْبَاقِي عَلَيْهِمْ لَيْسَ إِلَّا الْجِزْيَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُوسِرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْيَهُودَ أَرْزَاقًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَصِيرُونَ مَسَاكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْوَعِيدِ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْصَقَ بِالْيَهُودِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ أَوَّلُهَا: جَعَلَ الذِّلَّةَ لَازِمَةً لَهُمْ وَثَانِيهَا: جَعَلَ غَضَبَ اللَّهِ لَازِمًا لَهُمْ وَثَالِثُهَا: جَعَلَ الْمَسْكَنَةَ لَازِمَةً لَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ لِإِلْصَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَكْرُوهَةِ بِهِمْ هِيَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ إِنَّمَا الْتَصَقَتْ بِالْيَهُودِ بَعْدَ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَدْوَارٍ وَأَعْصَارٍ، فَعَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمَعْلُولُ الَّذِي هُوَ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ هَذَا الْمَعْلُولُ لَمْ تَحْصُلْ فِيهِ الْعِلَّةُ، فَكَانَ الْإِشْكَالُ لَازِمًا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَكِنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَسْلَافَهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَانُوا رَاضِينَ بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، فَنَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْقَبِيحُ فِعْلًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُصَوِّبِينَ لِأَسْلَافِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كُرِّرَ قَوْلُهُ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ التَّكْرِيرُ/ لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ أَقْوَى مِنَ الْمُؤَكَّدِ، وَالْعِصْيَانُ أَقَلُّ حَالًا مِنَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَجُزْ تَأْكِيدُ الْكُفْرِ بِالْعِصْيَانِ؟.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِلَّةَ الذِّلَّةِ وَالْغَضَبِ وَالْمَسْكَنَةِ هِيَ الْكُفْرُ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعِلَّةُ الْكُفْرِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ الْمَعْصِيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَوَغَّلُوا فِي الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ فَكَانَتْ ظُلُمَاتُ الْمَعَاصِي تَتَزَايَدُ حَالًا فَحَالًا، وَنُورُ الْإِيمَانِ يَضْعُفُ حَالًا فَحَالًا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَطَلَ نُورُ الْإِيمَانِ وَحَصَلَتْ ظُلْمَةُ الْكُفْرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ الْمُطَفِّفِينَ: 14 فَقَوْلُهُ ذلِكَ بِما عَصَوْا إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَرْبَابُ الْمُعَامَلَاتِ، مَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ الْآدَابِ وَقَعَ فِي تَرْكِ السُّنَنِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ السُّنَنِ وَقَعَ فِي تَرْكِ الْفَرِيضَةِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ الْفَرِيضَةِ وَقَعَ فِي اسْتِحْقَارِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ وَقَعَ فِي الْكُفْرِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، وَيُرِيدَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِما عَصَوْا مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ عِلَّةَ عُقُوبَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ لَمَّا تَبِعَ مَنْ تَقَدَّمَ كَانَ لِأَجْلِ مَعْصِيَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ مُسْتَوْجِبًا لِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَيْسَ إِلَّا من باب العدل والحكمة.
سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
في قَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله تعالى وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ