عَلَى أَنَّهَا مُطَهَّرَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، / أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ نُوحٍ لَمَّا كَانَ كَافِرًا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ هُودٍ: 46 وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ لُوطٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ، فَإِنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَاوَرَ أصحابه في ذلك الْحَرْبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَهُ: أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ غَرَضٌ آخَرُ فِيمَا يَقُولُ، فَمِنْ مُوَافِقٍ، وَمِنْ مُخَالِفٍ فَقَالَ تَعَالَى: أَنَا سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَامِلُ فِيهِ التَّبْوِئَةُ، وَالْمَعْنَى كَانَتِ التَّبْوِئَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الثَّانِي: الْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ إِذْ غَدَوْتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّائِفَتَانِ حَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ لَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ هَمَّتِ الطَّائِفَتَانِ بِاتِّبَاعِهِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ، فَثَبَتُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْهَمَ ذِكْرَهُمَا وَسَتَرَ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَهْتِكَ ذَلِكَ السِّتْرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَشَلُ الْجُبْنُ وَالْخَوَرُ، فَإِنْ قِيلَ: الْهَمُّ بِالشَّيْءِ هُوَ الْعَزْمُ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ عَزَمَتَا عَلَى الْفَشَلِ وَالتَّرْكِ وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ بِهِمَا أَنْ يُقَالَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا؟.
وَالْجَوَابُ: الْهَمُّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَزْمُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْفِكْرُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْعَدُوِّ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَوُفُورِ عُدَدِهِ، لِأَنَّ أَيَّ شَيْءٍ ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ مَنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَنَّهُ هَمَّ بِأَنْ يَفْشَلَ مِنْ حَيْثُ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ ضَعْفَ الْقَلْبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْصِيَةً وَقَعَتْ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لَكِنَّهَا مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ لَا مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما فَإِنَّ ذَلِكَ الْهَمَّ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ لَمَا بَقِيَتْ وِلَايَةُ اللَّهِ لَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عبد الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُما كَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الْحُجُرَاتِ: 9 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْهَمَّ مَا أَخْرَجَهُمَا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى نَاصِرُهُمَا وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِمَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمَا هَذَا الْفَشَلُ وَتَرْكُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟
الثَّالِثُ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَشَلَ إِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَلِيُّهُمَا فَأَمَدَّهُمَا بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْفِيقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَسْدِيدُهُ لَمَا تَخَلَّصَ أَحَدٌ عَنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى بعده هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنَا أَنَّا لَمْ نَهُمَّ بِمَا هَمَّتِ الطَّائِفَتَانِ بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ وَلِيُّهُمَا؟.
قُلْنَا: مَعْنَى ذَلِكَ فَرْطُ الِاسْتِبْشَارِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْزَالِهِ فِيهِمْ آيَةً نَاطِقَةً بِصِحَّةِ