النَّفْيِ عَلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى قَوْلِنَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَحَصَلَ لِلْحَقِيقَةِ مَجَازَانِ: أَحَدُهُمَا: أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ. وَالثَّانِي: أَبْعَدُ فَإِنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ الْأَقْرَبِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَا يَكُونُ صَحِيحًا أَتَمُّ مِنَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ الَّذِي يَكُونُ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ كَامِلًا، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ إِبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالثَّانِي: أَنَّ جَانِبَ الْحُرْمَةِ رَاجِحٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا أَحْوَطُ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ،
قَالُوا: الْخِدَاجُ هُوَ النُّقْصَانُ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، قُلْنَا: بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالصَّلَاةِ قَائِمٌ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، خَالَفْنَا هَذَا الْأَصْلَ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ، فَعِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ النُّقْصَانِ وَجَبَ أَنْ لَا نَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ إِلَّا أَنَّهُ لَوْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ قَضَاءً عَنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوْمُ الْكَامِلُ، وَالصَّوْمُ فِي هَذَا الْيَوْمِ نَاقِصٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ هَذَا الْقَضَاءُ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ:
نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي «تَعْلِيقِهِ» عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» .
وَالْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ:
رَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ الرَّجُلُ: عَلِّمْنِي الصلاة يا رسول الله، فقال عيله الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ،
وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَأَيْضًا الرَّجُلُ قَالَ: عَلِّمْنِي الصَّلَاةَ، فَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ لَيْسَ فِي/ التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا» ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا تَقْرَءُونَ فِي صَلَاتِكُمْ؟» قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: «هِيَ هِيَ» ،
وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ فِي صَلَاتِكُمْ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ إِلَّا بِهَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعًا مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُزَّمِّلِ: 20 وَجْهُ الدَّلِيلِ أن قوله «فاقرؤا» أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاجِبَةٌ، فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاتِحَةَ أَوْ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، أَوِ الْمُرَادُ التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول: يقتضي أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةُ بِعَيْنِهَا وَاجِبَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةً عَلَيْنَا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّالِثُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، وَسَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةِ