وَجَعَلَ أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ أَقْبَلَ الرُّمَاةُ عَلَيْهِمْ بِالرَّمْيِ الْكَثِيرِ حَتَّى انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ إِنَّ الرُّمَاةَ رَأَوْا نِسَاءَ الْمُشْرِكِينَ صَعِدْنَ الْجَبَلَ وَكَشَفْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ بِحَيْثُ بَدَتْ خَلَاخِيلُهُنَّ، فَقَالُوا الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ الرَّسُولُ إِلَيْنَا أَنْ لَا نَبْرَحَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَذَهَبُوا إِلَى طَلَبِ الْغَنِيمَةِ، وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ مَعَ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ دُونَ الْعَشَرَةِ إِلَى أَنْ قَتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَهَذَا هُوَ التَّنَازُعُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي الْأَمْرِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، أَيْ تَنَازَعْتُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّأْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُضَادُّهُ النَّهْيُ. وَالْمَعْنَى: وَتَنَازَعْتُمْ فِيمَا أَمَرَكُمُ/ الرَّسُولُ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَثَالِثُهَا: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، وَالْمُرَادُ عَصَيْتُمْ بِتَرْكِ مُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ.
بَقِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: لِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْفَشَلِ عَلَى ذِكْرِ التَّنَازُعِ وَالْمَعْصِيَةِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا هَزِيمَةَ الْكُفَّارِ وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ فَشِلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَنِ الثَّبَاتِ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ تَنَازَعُوا بِطَرِيقِ الْقَوْلِ فِي أَنَّا: هَلْ نَذْهَبُ لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ اشْتَغَلُوا بِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ بِمُفَارَقَةِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ خَاصَّةً بِالْبَعْضِ فَلِمَ جَاءَ هَذَا الْعِتَابُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ؟
وَالْجَوَابُ: هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ الْمُخَصِّصُ بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُمْ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ كَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَيْهَا لَا جَرَمَ سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِكْرَامَ وَأَذَاقَهُمْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَرْفَهُمْ عَنِ الْكُفَّارِ مَعْصِيَةٌ، فَكَيْفَ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ؟ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَهَذَا الْإِشْكَالُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ، فَعَلَى هَذَا قَالُوا مَعْنَى هَذَا الصَّرْفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكُفَّارِ، وَأَلْقَى الْهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ وَسَلَّطَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا آلِ عِمْرَانَ: 155 فَأَضَافَ مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى فِعْلِ الشَّيْطَانِ، فَكَيْفَ يُضِيفُهُ بَعْدَ هَذَا إِلَى نَفْسِهِ؟ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَاتَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِانْصِرَافِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ مُعَاتَبَةُ الْقَوْمِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ مُعَاتَبَتُهُمْ عَلَى طُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ وَمَرَضِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجِبَائِيُّ: إِنَّ الرُّمَاةَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ، بَعْضُهُمْ فَارَقُوا الْمَكَانَ أَوَّلًا لِطَلَبِ الْغَنَائِمِ، وَبَعْضُهُمْ بَقُوا هُنَاكَ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَقُوا أَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ، فَلَوِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْمُكْثِ هُنَاكَ لَقَتَلَهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ أَصْلًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَنَحَّوْا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى مَوْضِعٍ يَتَحَرَّزُونَ فِيهِ عَنِ الْعَدُوِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى الْجَبَلِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَحَصَّنُوا بِهِ وَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الِانْصِرَافُ جَائِزًا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَبْتَلِيَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَحَصَّنُوا بِهِ أَمَرَهُمْ هُنَاكَ بِالْجِهَادِ وَالذَّبِّ عَنْ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ