عَلِمُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَأْيِيدٍ رَبَّانِيٍّ وَتَسْدِيدٍ إِلَهِيٍّ، فَكَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ مِنْ كَمَالِ ذَلِكَ التَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ، فَقِيلَ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْوَبُ عِنْدِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي صَيْرُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحِيمًا بِالْأُمَّةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَرَفْتَ دَلَالَتَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالَّذِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَلْقَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ دَاعِيَةَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ هَذِهِ الدَّاعِيَةَ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا مَحَالَةَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ: وثانيها: إِنَّ كُلَّ رَحِيمٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِرَحْمَتِهِ عِوَضًا، إِمَّا هَرَبًا مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ، أَوْ طَلَبًا لِلذِّكْرِ الْجَمِيلِ، فَإِذَا فَرَضْنَا صُورَةً خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الرِّقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى حَيَوَانًا فِي الْأَلَمِ رَقَّ قَلْبُهُ، وَتَأَلَّمَ بِسَبَبِ مُشَاهَدَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَلَمِ، فَيُخَلِّصُهُ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ دَفْعًا لِتِلْكَ الرِّقَّةِ عَنْ قَلْبِهِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ لَمْ يَرْحَمْ أَلْبَتَّةَ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ لَا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، فَلَا رَحْمَةَ إِلَّا لِلَّهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْحَمُهُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا، أَوْ يُبْعِدَ عَنْهُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَكْرُوهِ وَالْبَلَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْمَرْحُومَ لَا ينتفع بذلك المال معه سلامة الأعضاء، وهي ليس إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا رَحْمَةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَكُلُّ مَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَةِ سُمِّيَ رَحِيمًا،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ»
وَقَالَ في صفة محمد عليه السلام: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ التَّوْبَةِ: 128 ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ مَفَاسِدَ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْفَظُّ، الْغَلِيظُ الْجَانِبِ السَّيِّءُ الْخُلُقِ، يُقَالُ: فَظِظْتَ تَفَظُّ فَظَاظَةً فَأَنْتَ فَظٌّ، وَأَصْلُهُ فَظِظَ، كَقَوْلِهِ: حَذِرَ مِنْ حَذِرْتُ، وَفَرِقَ مِنْ فَرِقْتُ، إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رَجُلٍ صَبٍّ، وَأَصْلُهُ صَبَبٌ، وَأَمَّا «الْفَضُّ» بِالضَّادِ فَهُوَ تَفْرِيقُ الشَّيْءِ، وَانْفَضَّ الْقَوْمُ تَفَرَّقُوا، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها الْجُمُعَةِ: 11 وَمِنْهُ: فَضَضَتُ الْكِتَابَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَظِّ وَبَيْنَ غَلِيظِ الْقَلْبِ؟
قُلْنَا: الْفَظُّ الَّذِي يَكُونُ سَيِّءَ الْخُلُقِ، وَغَلِيظُ الْقَلْبِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَدْ/ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ سَيِّءَ الْخُلُقِ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا وَلَكِنَّهُ لَا يَرِقُّ لَهُمْ وَلَا يَرْحَمُهُمْ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبِعْثَةِ أَنْ يُبَلِّغَ الرَّسُولُ تَكَالِيفَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا مَالَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ لَدَيْهِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ رَحِيمًا كَرِيمًا، يَتَجَاوَزُ عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ إِسَاءَتِهِمْ، وَيَخُصُّهُمْ بِوُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَكْرُمَةِ وَالشَّفَقَةِ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَرَّأً عَنْ سُوءِ الْخُلُقِ، وَكَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَلِيظِ الْقَلْبِ، بَلْ يَكُونُ كَثِيرَ الْمَيْلِ إِلَى إِعَانَةِ الضُّعَفَاءِ، كَثِيرَ الْقِيَامِ بِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ، كَثِيرَ التَّجَاوُزِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، كَثِيرَ الصَّفْحِ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وَلَوِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ. وَحَمَلَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَاقِعَةِ أُحُدٍ قَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ عَادُوا إِلَيْكَ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ وَشَافَهْتَهُمْ بِالْمَلَامَةِ عَلَى ذلك الانهزام لا نفضوا مِنْ حَوْلِكَ، هَيْبَةً مِنْكَ وَحَيَاءً بِسَبَبِ مَا