الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَتَلَهُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ، بِمَعْنَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ، فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِيَانَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ سَبَبٌ لِلْعَارِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَالنَّفْسُ الرَّاغِبَةُ فِيهَا تَكُونُ فِي نِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ، وَالنُّبُوَّةُ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِالنَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعٌ، فَثَبَتَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِيَانَةَ لَا تَجْتَمِعَانِ، فَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ مَرْيَمَ: 35 يَعْنِي: الْإِلَهِيَّةُ وَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقِيلَ: اللَّامُ مَنْقُولَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ النَّبِيُّ لِيَغُلَّ، كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتَّخِذَ وَلَدًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ الْتَمَسُوا مِنْهُ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِحِصَّةٍ زَائِدَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ذلك غلو لا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الزُّمَرِ: 65 وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ الْحَاقَّةِ: 44، 45 فَقَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا النُّورِ: 16 أَيْ مَا يَحِلُّ لَنَا.
وَإِذَا عَرَفْتَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَنَقُولُ: حُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ نَسَبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغُلُولِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ لَا تَلِيقُ بِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي التَّنْزِيلِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ فِيهِ/ إِلَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ يوسف: 38 وما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ يُوسُفَ: 76 وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ آلِ عِمْرَانَ: 145 وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ التوبة: 115 وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ آلِ عِمْرَانَ: 179 وَقَلَّ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيُضْرَبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ إِلْحَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تُضْرَبَ، بِضَمِّ التَّاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقِيلَ لَهُ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ (يَغُلَّ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ، فَكَيْفَ لَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ؟ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ (يَغُلَّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ فَفِي تَأْوِيلِهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يُخَانَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِيَانَةَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مُحَرَّمَةٌ، وَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ فِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ كُلَّمَا كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْظَمَ دَرَجَةً كَانَتِ الْخِيَانَةُ فِي حَقِّهِ أَفْحَشَ، وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ فَكَانَتِ الْخِيَانَةُ فِي حَقِّهِ أَفْحَشَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ حَالًا فَحَالًا، فَمَنْ خَانَهُ فَرُبَّمَا نَزَلَ الْوَحْيُ فِيهِ فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَضِيحَةُ الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْفَقْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْخِيَانَةُ هُنَاكَ أَفْحَشَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ: أن يكون من الإغلال: أن يخونه أَيْ يُنْسَبَ إِلَى الْخِيَانَةِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكْفَرْتُ الرَّجُلَ جَعَلْتُهُ كَافِرًا وَنَسَبْتُهُ إِلَى الْكُفْرِ، قَالَ الْعُتْبِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: يُغَلَّلُ، كَمَا قِيلَ: يُفَسَّقُ وَيُفَجَّرُ وَيُكَفَّرُ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَغْلَلْتُهُ، أَيْ وَجَدْتُهُ غَالًّا، كَمَا يُقَالُ أَبْخَلْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ، أَيْ وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَقْرُبُ مَعْنَاهَا مِنْ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ