ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا: قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ اللَّامِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِنَّمَا بَنَى اسْتِدْلَالَهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْإِخْبَارُ وَالْعِلْمُ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ هَذَا لَوْ مَنَعَ الْعَبْدَ مِنَ الْفِعْلِ لَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُوجِبًا لَا مُخْتَارًا، وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْخَيْرِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، لِأَنَّ بِنَاءَ الْمُبَالَغَةِ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ، فَلَمَّا لم يذكر الله هاهنا إِلَّا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لِنَفْيِ الْخَيْرِيَّةِ/ لَا لِنَفْيِ كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الذَّارِيَاتِ: 56 وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ النِّسَاءِ: 64 .
فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا خَاصٌّ، وَالْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَامٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِازْدِيَادِ الْغَيِّ وَالطُّغْيَانِ، كَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْحُصُولِ لِأَنَّ حُصُولَ مَعْلُومِ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَعَدَمُ حُصُولِهِ مُحَالٌ، وَإِرَادَةُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَيَجِبُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ ازْدِيَادَ الْغَيِّ وَالطُّغْيَانِ، وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّعْلِيلُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ جَازَتْ قِرَاءَةُ أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِكَسْرِ «إِنَّمَا» وَقِرَاءَةُ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً بِالْفَتْحِ. وَلَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الْبَتَّةَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْإِمْلَاءِ حُصُولَ الطُّغْيَانِ لَا حُصُولَ الْإِيمَانِ، فَالْقَوْلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَالْتِزَامٌ لِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذِهِ اللَّامُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى التَّعْلِيلِ.
فَجَوَابُهُ أَنَّ عِنْدَنَا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ اللَّهِ لِغَرَضٍ يَصْدُرُ مِنَ الْعِبَادِ، فَأَمَّا أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى فِعْلًا لِيَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِمْلَاءِ إِيصَالَ الْخَيْرِ لَهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، وَالْقَوْمُ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، فَتَصِيرُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ: وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي إِيجَادِ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِعَدَمِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مَانِعًا عَنِ الْقُدْرَةِ. أَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَتَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِ الْفِعْلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِهِ، فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ مَانِعًا لِلْعَبْدِ عَنِ الْفِعْلِ، فَهَذَا تَمَامُ الْمُنَاظَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.