الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ طَلَبُ التَّوْفِيقِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْسُنُ النَّظْمُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَفِّقْنَا لِلطَّاعَاتِ، وَإِذَا وَفَّقْتَنَا لَهَا فَاعْصِمْنَا عَمَّا يُبْطِلُهَا وَيُزِيلُهَا وَيُوقِعُنَا فِي الْخِزْيِ وَالْهَلَاكِ، وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَإِذَا وَفَّقْتَ لِفِعْلِهَا فَوَفِّقْنَا لِاسْتِبْقَائِهَا فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى اسْتِبْقَائِهَا وَاسْتِدَامَتِهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَا فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَلَا لَمْحَةٌ وَلَا حَرَكَةٌ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ الزُّمَرِ: 47 فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ اعْتِقَادَهُ كَانَ ضَلَالًا وَعَمَلَهُ كَانَ ذَنْبًا، فَهُنَاكَ تَحْصُلُ الْخَجَالَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْحَسْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْأَسَفُ الشَّدِيدُ، ثُمَّ قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: وَذَلِكَ هُوَ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ. قَالُوا: وَهَذَا الْعَذَابُ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هذا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي هَذَا الدُّعَاءِ أَشْيَاءَ فَأَوَّلُ مَطَالِبِهِمُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ آل عمران: 191 وَآخِرُهَا الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ.
سورة آل عمران (3) : آية 195فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ آل عمران: 190 ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ مُوَاظَبَتَهُمْ عَلَى الذِّكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَعَلَى التَّفَكُّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ آلِ عمران: 191 ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَعْدَ الثَّنَاءِ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ آل عمران: 191- 194 إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ فَقَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَمَّا كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ عَزِيزًا، لَا جَرَمَ كَانَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ مُجَابَ الدُّعَاءِ عَزِيزًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: يُقَالُ اسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا
... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْأَنْفَالِ: 34 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ: قُرِئَ بِالْفَتْحِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنِّي لَا أُضِيعُ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، وَقُرِئَ لَا أُضِيعُ بِالتَّشْدِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ قِيلَ لِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ الْحَجِّ:
30 وَقِيلَ: إِنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى: عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ذِكْرٍ أو أنثى.