بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ النِّسَاءِ
مِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء (4) : آية 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّعَطُّفِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَيْتَامِ، وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ وَإِيصَالِ حُقُوقِهِمْ إِلَيْهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى خُتِمَتِ السُّورَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ النِّسَاءِ: 176 وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا أُخَرَ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ شَاقَّةً عَلَى النُّفُوسِ لِثِقَلِهَا عَلَى الطِّبَاعِ، لَا جَرَمَ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَهِيَ تَقْوَى الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَنَا وَالْإِلَهِ الَّذِي أَوْجَدَنَا، فَلِهَذَا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عن ابن عباس في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لِأَهْلِ/ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ جَمْعٌ دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالِاتِّقَاءِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُلِقُوا بِأَسْرِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ عَامَّةً كَانَ الْحُكْمُ عَامًّا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالتَّقْوَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ النَّاسِ عَامًّا فِي الْكُلِّ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَامًّا فِي الْكُلِّ، وَكَانَتْ عِلَّةُ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ خُلِقُوا مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عَامَّةً فِي حَقِّ الْكُلِّ، كَانَ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
وَحُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرَبِ لِأَنَّ الْمُنَاشَدَةَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ عَادَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ. فَيَقُولُونَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ، وَأَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ مُخْتَصًّا بِالْعَرَبِ، فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ وهو قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ مُخْتَصًّا بِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَقَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ وَرَدَا مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى مُخَاطَبٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ خُصُوصُ آخَرِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أولها،