فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ الْإِذْنِ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يُفِيدُ حِلَّ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ يُفِيدُ تِسْعَةً، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنَى لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، بَلْ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ/ تِسْعٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ. الثَّانِي: أَنَّ سُنَّةَ الرحل طَرِيقَتُهُ، وَكَانَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْثَرِ مِنَ الْأَرْبَعِ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَنَةً لَهُ، ثُمَّ
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْجَوَازِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ،
وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً» .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ الْبَوَاقِي غَيْرُ جَائِزٍ، إِمَّا بِسَبَبِ النَّسَبِ، أَوْ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وبالجملة فلهذا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْإِجْمَاعُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ أَقْوَامًا شُذَّاذًا لَا يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الْإِجْمَاعُ يَكْشِفُ عَنْ حُصُولِ النَّاسِخِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الثَّانِي، أَنَّ مُخَالِفَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتُمْ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، فَلِمَ جَاءَ بِوَاوِ الْعَطْفِ دُونَ «أَوْ» ؟
قُلْنَا: لَوْ جَاءَ بِكَلِمَةِ «أَوْ» لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ بِالتَّثْلِيثِ وَالْفَرِيقَ الثَّالِثَ بِالتَّرْبِيعِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَخْتَارُوا قِسْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفٌ، دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِبَعْضٍ/ آخَرِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلِطَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَكَذَا هاهنا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ «أَوْ» وَذِكْرِ الْوَاوِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا طَابَ، تَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتٍ هَذَا الْعَدَدَ، ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ: