وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ آلِ عِمْرَانَ: 167 وَالْقَوْلُ لَا يَكُونُ إلا بالفهم، وَقَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الْحَجِّ: 46 وَالْقَلْبُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّدْرِ، وَقَالَ:
وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ الْأَنْعَامِ: 38 وَالطَّيَرَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجَنَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ الْأَكْلَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافَاتِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْيَتِيمِ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونَ إِتْلَافُ مَالِهِ بِالْأَكْلِ، أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلَ وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَامَّةَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ الْأَنْعَامُ الَّتِي يَأْكُلُ لُحُومَهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا. فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَتِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ فِيمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ مُرَادَاتِهِ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ مَالَهُ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْمُعَظَّمُ فِيمَا يُبْتَغَى مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وَعِيدِ كُلِّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، سَوَاءً كَانَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ وَقَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ يَصْلَوْنَ هَذَا السَّعِيرَ لَا مَحَالَةَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ مَخْصُوصًا بِالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ الْبَقَرَةِ: 254 ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ أَكْلُ الْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ مَنْ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ كَبِيرَةً وَلَا يَكُونُ مَعَهَا تَوْبَةٌ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ أَنْ يَطْلُبَ قَدْرَ مَا يَكُونُ كَثِيرًا مَنْ أُكِلَ مَالُهُ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَدْرُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي وَقَعَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْكَنْزِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَيُقَالُ لَهُ: فَأَنْتَ قَدْ خَالَفْتَ ظَاهِرَ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نزيد فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ زِدْتَ فِيهِ عَدَمَ كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ الْعَفْوِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجَدْنَا دَلِيلًا يَدُلُّ/ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ، لَكِنَّا نُجِيبُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ دَلَائِلَ الْعَفْوِ، بَلْ هِيَ كَثِيرَةٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُمُوهَا لَكِنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْوُجُودِ، بَلْ يَبْقَى الِاحْتِمَالُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَعِيدَ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِالْكَيِّ فَقَالَ: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ التَّوْبَةِ: 35 وَذَكَرَ وَعِيدَ آكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ بِامْتِلَاءِ الْبَطْنِ مِنَ النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ أَشَدُّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ الْفَقِيرَ غَيْرُ مَالِكٍ لِجُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يُمَلِّكَهُ جزأ من ماله، أما هاهنا الْيَتِيمُ مَالِكٌ لِذَلِكَ الْمَالِ فَكَانَ مَنْعُهُ مِنَ الْيَتِيمِ أَقْبَحَ، فَكَانَ الْوَعِيدُ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَكُونُ كَبِيرًا فَيَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ، أَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّهُ لِصِغَرِهِ وَضَعْفِهِ عَاجِزٌ فَكَانَ الْوَعِيدُ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ أَشَدَّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَسَيَصْلَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يُدْخَلُونَ النَّارَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: صَلِيَ الرَّجُلُ النَّارَ يَصْلَاهَا صَلًى وَصِلَاءً، وَهُوَ صَالِي النَّارِ، وَقَوْمٌ صَالُونَ وصلاء قال تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ الصَّافَّاتِ: 163 وَقَالَ: أَوْلى بِها