الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ:
رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بوجهه الكريم فقال: هل تقرءون إِذَا جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ؟
فَقَالَ بَعْضُنَا إِنَّا لَنَصْنَعُ ذلك، فقال: وأنا أقول ما لي أنازع القرآن، لا تقرءوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ بِقِرَاءَتِي إِلَّا أُمَّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ وَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ بِوُجُوبِ قِرَاءَتِهَا.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا عَدَمُ قِرَاءَتِهَا فَهُوَ عِنْدَنَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَحْوَطُ، فَكَانَتْ وَاجِبَةٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا بَقِيَ الْمُقْتَدِي سَاكِتًا عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ بَقِيَ مُعَطَّلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْقَارِئِ أَفْضَلَ مِنْهُ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ الِاقْتِدَاءُ مَانِعًا مِنَ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ الِاقْتِدَاءُ حَرَامًا، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمَانِعُ مِنَ الْعِبَادَةِ الشَّرِيفَةِ مُحَرَّمٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِدَاءُ حَرَامًا، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ/ وَأَنْصِتُوا الْأَعْرَافِ: 204 وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَبَالَغْنَا، فَلْيُطَالَعْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَخْبَارًا كَثِيرَةً وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَيْهَقِيُّ بَيَّنَ ضَعْفَهَا، ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَكِنَّ الْأَخْبَارَ لَمَّا تَعَارَضَتْ وَكَثُرَتْ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَنَا يُوجِبُ الِاشْتِغَالَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، وَقَوْلَهُمْ يُوجِبُ الْعُطْلَةَ وَالسُّكُوتَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا أَوْلَى: الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَنَا أَحْوَطُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَنَا يُوجِبُ شَغْلَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ بِالطَّاعَاتِ وَالْأَذْكَارِ الْجَمِيلَةِ، وَقَوْلَهُمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْوَقْتِ عَنِ الطَّاعَةِ وَالذِّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي رَكْعَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: وَهَذَا الْقَوْلُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَصْلًا وَالثَّانِي: قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ جِنِّي أَنَّ الْقِرَاءَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَإِذَا حَصَلَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي