أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ
إلى قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الْأَنْعَامِ: 148 جَعَلَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَمِنَ الْمُوجِبَاتِ الْقَوِيَّةِ فِي مَذَمَّتِهِمْ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْبَتَّةَ تُرِكَ هَذَا النَّصُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ النُّصُوصِ، فَوَجَبَ عِنْدَ وِجْدَانِهَا أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا ذَرُوهُ»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ الْكِتَابُ مَرْدُودًا فَالْقِيَاسُ أَوْلَى بِهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وَالْقِيَاسُ يُفَرِّقُ عَقْلَ الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى بِالْمُتَابَعَةِ وَأَحْرَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ: أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ أَحْكَامُهَا مَنْصُوصَةً عَلَيْهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِالطَّاعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَالثَّانِي: مَا لَا تَكُونُ أَحْكَامُهَا مَنْصُوصَةً عَلَيْهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِذَا كَانَ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَكْلِيفٍ خَاصٍّ مُعَيَّنٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِشَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِصْلَاحِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدَ هَذِهِ الْأُمُورِ الأربعة فَهُوَ تَغْيِيرُ عِبَارَةٍ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا قَطْعًا لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَاعْتَرَضَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ. وَهَذَا يَقْتَضِي افْتِقَارَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِلْفُقَهَاءِ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ الْوَارِدَةَ فِي الْوَقَائِعِ الْمَخْصُوصَةِ دَالَّةٌ عَلَى/ النُّدْبِيَّةِ فَقَوْلُهُ: أَطِيعُوا لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورَاتِ مَنْدُوبٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. لِأَنَّ مُجَرَّدَ النُّدْبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى إِفَادَةِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْأَوَامِرَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْمَأْمُورَاتِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهَا فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ وَعِيدٌ، فَكَمَا أَنَّ احْتِمَالَ اخْتِصَاصِهِ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ احْتِمَالُ عَوْدِهِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَقَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَائِمٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِعَوْدِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ إِلَى الْكُلِّ صَارَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ مُوجِبًا لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا الْقَوْلُ وَإِمَّا الْفِعْلُ، أَمَّا الْقَوْلُ فَيَجِبُ إِطَاعَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّه لِلْوُجُوبِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي صِفَةِ محمد عليه