فَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: جَزَمُوا لِكَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ، فَلَمَّا سَكَنَتِ التَّاءُ أُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّاءَ وَالدَّالَ وَالتَّاءَ مِنْ حَيِّزٍ وَاحِدٍ، فَالتَّقَارُبُ الَّذِي بَيْنَهَا يُجْرِيهَا مَجْرَى الْأَمْثَالِ فِي الْإِدْغَامِ، وَمِمَّا يُحَسِّنُ هَذَا الْإِدْغَامَ أَنَّ الطَّاءَ تَزِيدُ عَلَى التَّاءِ بِالْإِطْبَاقِ، فَحَسُنَ إِدْغَامُ الْأَنْقَصِ صَوْتًا فِي الْأَزْيَدِ صَوْتًا. أَمَّا مَنْ لَمْ يُدْغِمْ فَعِلَّتُهُ أَنَّهُمَا حَرْفَانِ مِنْ مَخْرَجَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ مُتَفَاصِلَتَيْنِ، فَوَجَبَ إِبْقَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: بَيَّتَ بِالتَّذْكِيرِ وَلَمْ يَقُلْ: بَيَّتَتْ بِالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الطَّائِفَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْفَرِيقِ وَالْفَوْجِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بَيَّتَ طائِفَةٌ أَيْ زورت وزينت خلاف ما قلت وَمَا أُمِرَتْ بِهِ، أَوْ خِلَافَ مَا قَالَتْ وَمَا ضَمِنَتْ مِنَ الطَّاعَةِ، لِأَنَّهُمْ أَبْطَنُوا الرَّدَّ لَا الْقَبُولَ وَالْعِصْيَانَ لَا الطَّاعَةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يُنَزِّلُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ.
وَالثَّانِي: يَكْتُبُ ذَلِكَ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازُوا بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى لَا تَهْتِكْ سِتْرَهُمْ وَلَا تَفْضَحْهُمْ وَلَا تَذْكُرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّه بِسَتْرِ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَنْ يَسْتَقِيمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ، فَإِنَّ اللَّه يَكْفِيكَ شَرَّهُمْ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ/ الْمُنَافِقِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ التوبة: 73، التحريم: 9 وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّفْحِ مُطْلَقٌ فَلَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَوُرُودُ الْأَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا له.
سورة النساء (4) : آية 82أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنْوَاعَ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ مُحِقًّا فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ صَادِقًا فِيهِ، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مُفْتَرٍ مُتَخَرِّصٌ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَنْظُرُوا وَيَتَفَكَّرُوا فِي الدَّلَائِلَ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. فَقَالَ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فَاحْتَجَّ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّدْبِيرُ وَالتَّدَبُّرُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَأَدْبَارِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَامَ تَدَبَّرُوا أَعْجَازَ أُمُورٍ قَدْ وَلَّتْ صُدُورُهَا، وَيُقَالُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، أَيْ لَوْ عَرَفْتُ فِي صَدْرِ أَمْرِي مَا عَرَفْتُ مِنْ عَاقِبَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ لو تُحْمَلِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهَا الْبَتَّةَ، وَالْعُلَمَاءُ قَالُوا: دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثلاثة أوجه: أحدها: فَصَاحَتُهُ. وَثَانِيهَا: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ. وَالثَّالِثُ: سَلَامَتُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ سَلَامَتِهِ عَنِ الِاخْتِلَافِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ فِي السِّرِّ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، واللَّه تَعَالَى كَانَ يُطْلِعُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ حَالًا فَحَالًا وَيُخْبِرُهُ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَمَا كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلَّا الصِّدْقَ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَّا لَمَا اطَّرَدَ الصِّدْقُ فِيهِ، وَلَظَهَرَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْوَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ