مُسْتَعْمَلٍ فِيهِ، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقْلِيلَ الرَّكَعَاتِ، بَلْ تَخْفِيفَ الْأَعْمَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، فَسَقَطَ هَذَا الْعُذْرُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَلِفُوا الْإِتْمَامَ، فَرُبَّمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ نُقْصَانًا فِي الْقَصْرِ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْجُنَاحَ لِتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ بِالْقَصْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ إِنَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ لَهُمْ: رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي هَذَا الْقَصْرِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقَصْرَ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الْإِتْمَامَ، وَجَعَلْتُهُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِكُمْ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ عَاقِلٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ لَائِقًا بِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا
رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: اعْتَمَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَصَرْتُ وَأَتْمَمْتُ وَصُمْتُ وَأَفْطَرْتُ، فَقَالَ: أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ وَيَقْصُرُ، وَمَا ظَهَرَ إِنْكَارٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ جَمِيعَ رُخَصِ السَّفَرِ شُرِعَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ، لا على سبيل التعيين جزما فكذا هاهنا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ مِنْهَا مَا
رَوَى عُمَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تدل على كون القصر مشروعا جائزا، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ غَيْرُهُ؟
وَلَمَّا دَلَّ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُبْطِلُ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ تَخْفِيفُ الركعات، ولو كان الأمر على مَا ذَكَرُوهُ لَمَا كَانَ هَذَا قَصْرًا فِي صَلَاةِ السَّفَرِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: زَعَمَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَلِيلَ السَّفَرِ وَكَثِيرَهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الرُّخْصَةِ وَزَعَمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السَّفَرَ مَا لَمْ يُقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الرُّخْصَةُ. احْتَجَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ بِالْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ، وَجَزَاءُ الشَّرْطِ هُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ جَوَازُ الْقَصْرِ، وَإِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الرُّخْصَةِ عِنْدَ انْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، وَمِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ:
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ إِنْ لَمْ يُسَمَّ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ تَطَرَّقَ إِلَى هَذَا النَّصِّ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى النَّصُّ مُعْتَبَرًا فِي السَّفَرِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الضَّرْبَ فِي الأرض شرطا